الرباط : مصطفى منيغ
أوصلتني السيارة لغاية المائة متر الأخيرة الفاصلة بيني ومَمَرّ العبور نحو المغرب ، نزلتُ وبيدي كيس أخرجته من صندوقها الخلفي به جلباب رثّ خَشِن المَلْمَس ممزّق تفوح منه رائحة تُبعد عن لابسه العدوّ كالحبيب ، وعمامة غيَّب عن لونها الأصلي وحل يابس ملتقط من مستنقع ماء آسن للذباب الباحث عن مقرِّ وسِخٍٍ جالب ، غطَّيتُ بها رأسي وجزءا من وجهي لأبدو عن سليم العقل ذاك الغريب ، التائه بين المطارح يقتات منها ومتى لفَّ وجوده ظلام الليل غَفا عن الدنيا مُلقَى على ارضٍ مهما كان وضعها لجسده البشري مُتعب ، منظره إن صَحا مِن بعيد مُخيف وعن قُربٍ لا يطيقه حتى الصَّابر على المكاره بصبر استثنائي يستجيب . عزمتُ وتقدّمت لا أتصوَّر إلا وقُوع ما حَكَّمْتُ لأجله مثل الترتيب ، إذ ما كدتُ أدْنُو من حاجز للدرك الجزائري حتى انْتَهَرَني أحدهم والثاني لوَّح برشاشه أن استمر دون توقُّف مُحيَّاه يُظْهٍرُ وَقْع الرَّائحةِ الكريهة التي صَدَّرَها الجِلباب لأنفه ليشلّ عنه التفكير ولتخطيطي الهدف يصيب ، حتى إذا وصلتُ “الخندق” ألقيت بنفسي داخله لأتخلًّص ممَّا أرتديه وأتسلق الجدار المقابل دون الشعور بما فعله الشوك من تمزيق لبعضٍ من لحم بدني ليطبع دمي كلمة نهاية لمغامرة أعظم ما فيها خدمة وطني داخل الاتجاهين البعيد كالقريب.
… منحنى سائق “التاكسي” الكبير المُكلَّف بنقل المسافرين من “زوج بغال” لغاية وسط مدينة وجدة والعكس صحيح ، ما توفَّر لديه من ماء غسلتُ به وجهي ويداي ، ثم طلبتُ منه أن يسرع في قيادته للسيارة ولا يتوقَّف إلا بباب العمالة (المحافظة) ، بغير إطالة تفكير فهِم أن الأمر يتعلَّق بقضية التوتُّر السائد بين البلدين المغرب والجزائر ، وربما أكون أحد هؤلاء المتعاونين مع السلطة ومن الواجب عليه أن يساعدني ، حتى أنه امتنع عن أخذ الأجرة ، لم اشعر إلاَّ وأنا اقتحم مكتب العامل السيد “محمد الدُبِّي القَدْمِيرِي” دون استئدان أحد معاونيه أو حراسه ، مستغرباً في ذهول ممزوج بالخوف ، وخاصة من مظهري والدم لا زال يتسرب من جرح في يدي اليمنى ، قلتُ له بعفويَّة مُطلقة وكلمات متسارعة حفاظاً على الوقت : – أتأسَّف سعادة العامل عن اقتحام مكتبكَ الموقَّر على هذه الصفة غير العادية ، لكنك ستبذل ما في وسعك لمساعدتي عندما تعلم أنني قادم من الجزائر العاصمة ، وهناك اثنان من الأصدقاء سيلتحقان بي وعلىّ أن أوفِّر لهما استقبالاً أمنياً لا يضرُّهما ، انطلاقاً ممّا قدماه من أجل الوطن تلبية لنداء عاهل البلاد ، ومتى حضرا ستعلم سعادة العامل كل شيء بالتفصيل ، على الفور طلب من قائد القوات المساعدة ، الذي سارع بإمساكي منذ الوهلة الأولى من ذاك الاقتحام ، طالباً منه مرافقتي لغاية “زوج بغال” لاستقبال ما سيرشدك لمعرفتهما هذا الرجل المحتاج للإسعافات الأولية من جروحه النازفة دماً ، سأتصل بالرئيس الإقليمي للأمن الوطني ليلتحق بكم هناك للإشراف بنفسه عن العملية . في المستشفى أحاطتني إحدى الممرضات بعناية خاصة وقائد القوات المساعدة يروي لها ما حصل فسبَّب لي مثل الجروح ، طالبة مني العودة عندما أتمكن من الوقت ليتفحصني الدكتور ، وودعتني بابتسامة لا معنى لها إلا الاعجاب بما فدّمتُ . وصلنا إلى “زوج بغال” لنجد السيد “محمد بناني” الرئيس الإقليمي للأمن الوطني قد سبقنا محفوفا ببعض معاونين من العاملين في الاستعلامات والشرطة القضائية وغيرهم المستعدين للتدخّل إن حصل طارئ ، حياني مُبتسماً طارحاً عليّ بعض الأسئلة الخفيفة عن القادمين من الجزائر اللذين كما قال لي بالحرف الواحد :
– ألقيتَ بسببها نفسك للتهلكة خاصة وأن أحد أفراد شرطة هذا المقر لمَحَكَ وأنت تتسلَّق ذاك الجدار فكاد يرميك بنار مسدسه ، لولا اتصاله الفوري عبر خط مفتوح بيننا ، لنأمره عدم القيام بذلك حتى لا يتَّخذها الجانب الجزائري ذريعة لنشوب مواجهة لا يحمد عقباها ، فاكتفي بمراقبتك من بعيد ومدَّنا برقم التاكسي الذي أسرع بك إلى مقر العمالة ، فكنتَ رهن مراقبتنا أولا بأول ، البقية أطلعني عليها السيد العامل طالباً مني القيام بواجبي في مثل الحادث ، وأن أواجهك بما يليق بك من احترام وتقدير ، سنلتقي لا محالة في إطار تعاون أساسه خدمة الوطن وخاصة في هذه الظروف .
… لم يترك لي وصول الصديقين ، سوى أن أقدمهما إليه لتقوم الشرطة بتسهيل دخولهما لأرض وطنهما في أحسن الأحوال والظروف. (يتبع)
التعليقات مغلقة.