مصطفى منيغ
مع الدقيقة الخامسة بعد منتصف الليل طرق باب غرفتي أحد مساعدي وزير الداخلية، ما أن قابلي بعد فتح الباب حتى طلب مني مرافقته على الفور ، لبَّيتُ دون استفسار كالعادة، وما هي إلا دقائق تصل العشرين حتى رأيتُ السيد “إدريس البصري” يتقدّم لاستقبالي بحفاوة لم أكن أتصوَّر مغزاها حقيقة، إن لم تكن لإشعاري بالأمان داخل تلك الحديقة الغناء المحتضنة بيتاً يعكس ثراء صاحبه، وما أكثرهم من أغنياء في تلك المنطقة التي حَدَّدتُها (في مناسبة لاحقة بعد أعوام طواها الزمان ، ساقني القدر إليها لثاني مرة في عمري) كائنة فوق النفوذ الترابي لإقليم (محافظة) “اشْتُوكَة آيِتْ بَاهَا”، وأكثر دقَّة في ناحية أقرب ما تكون من مدينة “بِيُوكْرَا”، التي أصبحت الآن مقرّ عمالة ذاك الإقليم، المزدحم بالضيعات الفلاحية ذات المزروعات المغطاة، المنتجة لما تزخر به معظم الأسواق المغربية من خضر وفواكه .
استقبلني ولسانه ناطق بما اعتبرتها مجاملة يتبعها ولوج في عكسها لضمان أهم المعلومات الراغب في معرفتها مني مباشرة، وليسمعني بدوره بعض الأشياء المُسيَّجة بما تتطلبه المحافظة على الأسرار من عهد متبادل مع المُطّلع عليها مثلي، أن تبقى في طي الكتمان مهما أحاط حاملها في صدره، من عوامل الضغط للبوح بها. لم يكن قصدي الوصول لما جرَّني لتحمُّل مثل المسؤولية المطارِدة ذاكرتي مهما نأت بوجودي الأقدار، بين ديارٍ المواطن يُتْرَكُ فيها لاختياره أسلوب العيش الذي ارتضاه بحرية مُكتسبة عن تربية تدَع الرسمي لرَسْمِياتِه العامة ، والعادي لعاداته الخاصة ، المساير بها أحلامه العظيمة ، ورغباته المتواضعة، ديار جرَّبتُ انتسابي للإستقرار داخلها من شبه “الجزيرة الأيبيرية” لغاية أمريكا الشمالية بجزأيها “كندا” و”الولايات المتحدة الأمريكية”، فكانت “المملكة الهولندية” محطة ركَّزَت في وجداني الراحة، ومَتَّعتني بممارسة حرفة الكتابة بشكل آخر عن أشياء أخري، تجعل من الإنسان إنساناً قادراً على قول كلمته، والانتظار حتى سماع الردّ عليها، من طرف الآخرين دون وَجَلٍ أو خوف أو شعور بالنَّدم .
في مجمل حديثه أشار لما هو متعلّق بحياتي الشخصية، وما جال به مع تقارير دَرَسَ فحواها جيِّداً دون العثور على نقط يفرضها الاهتمام الذي من ورائه قرار يُتَّخذ في حقي كمواطن تصرَّف في جانب جد حساس من تلقاء نفسه، جانب يحتاج لشجاعة نقاش للخروج بنتيجة مقبولة من طرفي والطرف الرسمي لدرجة معينة لا تتعدى اختصاص وزير الداخلية إلى تلك اللحظة بعينها، وهذا ما جعل الأخير يُبعد قسم الشؤون العامة و خبرائه في الاستعلامات، عن استجوابي ولو حِبِّياً، لان مثل الأمر لم يوضع في مذكرة اهتمامات ذات القسم رغم المسؤوليات التي يتحملها بخصوص الإجابة عن أي أسئلة تقرٍّب الوضوح المبني عليه أي تدخل يخص العديد من القضايا المجمَّعة لديه من العمالات والأقاليم على طول البلاد وعرضها . بداية قال لي
– وأنت تختار شريكة لحياتك لم تقدك العاطفة بل العقل رغم صِغر سنك، وأنت في قرية “بَرْكِنْتْ / عين بني مطهر”، ذاك الغريب القادم من بيئة مختلفة، المتعلّم بمقدار يبعدك عن مثل النواحي، لكنك قررت وأنت القادم من “أُطْرِخْتْ” الهولندية، البقاء مشدودا لطبيعة بدوية صحراوية كل شيء فيها يؤخذ بالجدية والصبر والنَفَسِ الطويل ، قبلتك تلك الأسرة الجزائرية الجذور المنتسبة لشرفاء “سيدي بوتخيل” قرب “القنادسة”، قبِلتك فردا جديدا (وزوجتك جوهرة نفيسة ميزها جمال الخلق وسمو الحياء وتحكيم العقل وإحضار النظرة المستقبلية في تكوين أسرة مع رجل مثلك ارتاحت إليه منذ اللقاء الأول) داخل فضاء أفرادها المحصن بكثرة الفضلاء الفارضين وجودهم في تلك الناحية من المغرب الشرقي بعملهم النظيف المبني على بذل العرق لضمان الرزق الحلال ، فكنتَ نِعْمَ الرجل المُدرِك تَكَيُّفَه مع تلك الأجواء، التي خرجتََ منها بما نفعكَ من معلومات ثمينة أعانتكَ لتبتعدَ كل البعد عن المشاكل مهما كان مصدرها وأنت داخل الجزائر . ما قمتَ به عن طريق فكرتك العجيبة للوقوف بمفردكَ أمام سيلٍ من المسؤولين مهما كان اختصاصهم مدني أو عسكري ، ليقرأ الرئيس الهواري بومدين أفجع رسالة توصَّل بها وهو على ما هو عليه من قوة ونفوذ ، تتحداه بجُمَلٍ رغم قِصرها أطالت في ذهنه دَوِيَّ انفجار قَلَبَ نظرته للأمور الأمنية في دولته انقلاب جَلْجَل صَيِته حتى وصلنا هنا صداه، فتعجبنا من جرأتكَ وإقدامِك على المهالك بتبات المخلص المدافع عن مسيرة ملكه الخضراء الهادفة لاسترجاع الصحراء ، كلما تصوّرتُ ذاك الرئيس وهو يقرأ : “ستكون مسيرة خضراء رغم أنفك” ، أتيقَّن أن لقائي بك اللحظة أقل واجب اعبِّر من خلاله عن إعجابي العميق للطريقة التي نفذت بها رغبتكَ تلك دون مساعدة أحد في تحمل أعباء تخيَّلتُها أنها تفوق بكثير قدراتك الذاتية . طبعاً هناك جانب أعطيتَه ما يلزم في نظرك من اهتمام قد يتعلَّق بفرضية نسف المسرحية المعنية من الداخل ، ممّا جعلك تنتقل لغاية “تندوف” والحديث مع جنرال ، حرَّك في ذات اللحظة ما يتبيّن به إن كانت السلطات العليا في المغرب لها علاقة بالموضوع ، لكن نيتك السليمة وتخطيطكَ المُحكم أظهرا في الأخير أن تخمينات ذاك الجنرال الجزائري لم تكن في محلّها ، الشيء الذي ارتحنا له حقيقة . هناك بعض الحدود التي لا يجب اقتحامها إلا بأذن مُسبق حتى ينفرد التنسيق بحيز أضيق من الضيِّق ، أمور من الصعب الانتباه لها خارج المسموح به ، ذي الارتباط الوثيق مع سياسة تستوجب ترك أشياء لتُحقِّق أشياء يستعين بها مَن يضبط منبِّه الحاضر ، على ساعة استيقاظ في مستقبل تتحكَّم فيه ظروف أقل ما يُقال عنها أنها لصالحنا ستكون .
لم أعر أي اهتمام للأكل الفاخر الذي وُضع أمامنا، بل ركَّزتُ في إبراز جوابي ليَفْهَمَ السيد “البصري” أن الحاضر قد يساهم في جعل المستقبل على قياس رغبة المُخَطِّطِ له باهتمام بالغٍ ورعاية مُخَصَّص لها أقصى حِكَمِ حُكماءٍ يقودهم مَن هو أحْكَم منهم ، لكن الزمان ليس بمطأطئ حاله إلاَّ لخالقه، ما هو ممكن للعقل البشري، التمكُّن فيما يرغب فيه هذا الطرف أن يكون ، لكن الفاعل يبقى رهيناً بالطرف الآخر المعني مباشرة بنفس الموضوع . بالتأكيد للمعلومات المحصَّل عليها من هناك لترتمي بين الانظار المتتبعة كعمل يقوم به أصحابها على امتداد الأربع والعشرين ساعة هنا ، قد تُُصيب في تطويع الأمر لصالحنا ، لكن المنطق يفرض علينا تحمُّل مشقَّة الأحداث المستجدة على امتداد أعوام ، تكبر كدائرة ثلج مع تدحرجها تتحول لكتلة سميكة ، من الصَّعب السيطرة على حجمها إلا باستعمال قُوَّة جدّ مُكلّفة . (يتبع)
التعليقات مغلقة.