مصطفى منيغ
بوصولي للمقهى (ك) وجدتُ صباح ذاك اليوم الموالي “الشرطية” وكأنها في شأن مستعجل تودّ مقابلتي ، فبعد الرحلة التي حرستني فيها لغاية “مراكش” وتيقُّنها أن السيد “محمد طريشة” في سلام استلمني ، حفظتُ اسمها احتراماً لما أبدته معي من حسن تصرُّف وشديد انتباه ، مؤدية واجبها بكل دقة وأمانة ، إلى أن التقينا ثانية في وجدة بالصدفة لنُجدّد التحية ، وهذه المرة كمواطنين عاديين يمارسان حقّهما بشكل طبيعي خارج إطار أية مسؤولية رسمية ، ممَّا جعلها عن طيب خاطر وبإلحاح مشكورة عليه ، كي أرافقها لتعرٍّفني على محلّ إقامتها وعن نفسها كما انتبهت ، وهناك تقاسمنا “الملح” كما يُقال ، على أمل أن تظلَّ الصداقة بيننا وتتطوَّر لما فيه الخير لنا ، سألتُها إن كَان القصد استَوْجبَ عناء انتظاري في عين المكان خلفه ما يُخيف ؟، ودون أن تتركني أكمِّل ما يأتي بعد تلك المقدّمة الدّبلوماسية ، ذكّرتني أن العملَ شيء وما سيدور بيننا آخَر ، لا شأن له البتّة ، عساه يجعلكَ تحسّ أنني أُنثى قبل أن أكون شرطية ، ممّا لا يمنع أن أفكِّرَ (وأنا في عطلة سنوية) في تدبير حالتي الاجتماعية ، للخروج من عزلة أعتقدُ أنني احترمتُ شروطها بما يكفى لأكون مثالية اشرِّف المهنة التي انتسبُ إليها مُفتخرة قانعة راضية . وما المطلوب مني أقدّمه لكِ دون نقاش ؟ ، على نفس المستوى من التَّقدير الذي أكنُّه لكِ ، ليقيني أنَّك من شجرةٍ طيِّبة مدَّت غصناً منها لتثمر حيث أنتِ الآن، ما يتواصل به تاريخ نشأتها ، بغدٍ لا زال ينتظر في طيِّ الغيب ، كي يساير لو شاء ، ارادة اختياركِ لما تكوِّنين معه غُصناً جديداً يناسب (فيما يخصّ تربيتكِ وحُسن خلقك) الطيِّبةَ والطيِّب في وحْدَةٍ روحية ، يبتدئ منها التكوين المجتمعي المتناغم مع تطوّر الحياة بعد سُنّتها .
– شيء جميل (واسْتَطْرَدَت مبتسمة) متى تتركُ عزيزي مصطفى تلميحاتكَ الذكيَّة، وتلج مباشرة لمعالجة الموضوع من زاوية وحيدة لا غير، حتى تتَّضح عوامل ودوافع الاستعدادات الواجب القيام بها في شفافية مُطلقة، أو التخلّي عنها كلية ، أو التريُّث بها لأجلٍ قد تجعله مُحدَّدا ، لِعِلمكَ أنّ الأيام كحبات الملح تذوب إن لحِقها بَلَل المُماطلة وعدم استغلالها ليكون لطعم مرورها ذاك المذاق المستساغ من قلب يخفق بغير عِلّة الضَّغط كميزة مؤكَّدة ينفرد بها عمر الشباب . لا تبتعد أرجوك بادعاء عدم معرفتكَ لما أريده منك ، المرأة العاشقة تستطيع إخفاء سرّ ذلك عن الجميع إلاّ عن معشوقها وعيناها في عينيه ، كوضعيتي الآن معك ، طبعاً لستُ خَجِلَة بحديثي هذا معك ، بل متحملة مسؤولية كل كلمة بما لها و ما عليها ، لأنها نابعة من وجدان نقيّ لا تجربة لصاحبته في مراوغة تؤدِّي لشهادة ولو كاذبة في حقها ، أتدري صديقي مصطفى لما المرأة تواظب على حملقتها في المرآة لمرات ومرات ؟؟؟، أنها تفعلُ دالك لتتيقَّن أن نواة التجاعيد لم تزُر بعد أي ركن حسَّاسٍ في وجهها .
النادِلُ يخبرني أن رجلاً بالخارج يسأل عني ، اعتذرتُ للشرطية وانصرفتُ أتبيَّن الأمر ، لم يكن سوى الذي توسَّطته له في قضية الشاحنة ، وقد غير منظره من جلباب إلى بذلة أروبية أنيقة ، متخلِّصاً من عمامة رأسه ليبدو شخصاً مُغايراً تماماً ، صافحني بحرارة متمنيا أن لا أخذله وأقبل بدعوته للعشاء في بيته وسط أسرته الكريمة ، بل اقسم عليَّ أن أقْبلَ ليس بالعشاء وإنما بالمبيت أيضا ، لما سنناقشه من مواضيع على قدر كبير من الأهمية قد تطول مدتها زمناً ، لم أتمكَّن من الهروب وتمنيتُ أن أكونَ في الموعد الذي حدَّده بالتاسعة ليلا من نفس اليوم ، ألتفتتُ خلفي فوجدتُ الشرطية ملتقِطة ما دار بيني وذاك الرجل، فرسمت على محياها علامات التعجب ، ولما أردتُُ اللِّحاق بالنادل كي أحاسبه عما شربناه أبلغتني أنها قامت بالواجب وأكثر ، أشارت إليَّ أن اتبعَها حيث تركت سيارتها ، و ما أن وصلنا للمكان حتى رأيتُ عمر بلشهب يشير عليَّ بالتوقّف ليطلب مني أن التحق بمكتبه بعد نصف ساعة إن كان ذلك ممكناً فأومأت له برأسي ليفقه موافقتي .
– يا له من يومٍ لو حسبته هكذا لما فارقتُ فراشي ، كان الله في عونكَ يا صديقي العزيز ، المهمّ إلى أين الاتجاه ؟، سألتني .
– إلى البيت حيث الجزائرية تترقَّب عودتي ، أجبتُها.
– في بيتكَ ؟؟؟ ، سمعتُ بما التزمتَ به لصالحِها لكنّني ما تصوّرتُ أن تأخذَها لبيتكَ لتعيش معك امرأة ورجلاً لا صلة قرابة بينهما حتى ، أَلاَ تعتقد أنَّكَ تجاوزتَ حدود الأعراف والتقاليد ، على الأقلّ أمام الجيران الملتفة بيوتهم على بيتكَ الجدّ مُحترم .
– بدأت الغيرة تأكل من تعقُّل إنسانة حسبتُها مختلفة عن الأخريات بوعي يفرِّق بين الممكن وإن كان عند الكثيرين غير ممكن ، بفضل تلك الجزائرية وما عَلِمَتْهُ عَنّي وشاركت ولو بالنزر القليل فيه ، لما حصلَ التعارف بيننا أصلاً ، لا تذهبين بتخميناتكِ الباطلة لحدٍ تندمين فيه ، لستُ أنا مَن يستغلّ وضعية فتاةٍ ألقت بنفسها للتهلكة ، من أجلي و أجل المملكة المغربية ومصالح عشرات الآلاف من المغاربة المعرَّضين للتشرُّد ، إن لم يقم المغرب بإنقاذهم انطلاقاً من موعد كئيب لاَحِق ، المرجو إن كنتِ ترغبين في استمرار صداقتنا أن تحسني الظن بي ، وإلا أتمنى لكِ كلّ سعادة الدنيا ونتوقَّف هنا .
– ألِهذا الحدّ جرحتُ مشاعركَ ؟ ،إنّي آسفة إن فهمتَ أنني قادرة على ذلك بعدما أصبحتَ نصف الخافقِ في صدري ، لا تنسى أنه مجرد قلق ناتج عن هواجس ظرفية يوسوس بها الشيطان في ذهني ليبعدني عن طريق الصّلاح والخير ، وتيقن أنني فاعلة ما تريد إن كان ما سأفعله يشفع لي لتسمح لي زَلّة لساني .
وصلنا إلى البيت لنقابلَ فيه ببهجة فرح من طرف العزيزة الجزائرية ، لم تسأل مَن تكون المرأة التي أحضرتُها معي ، ولا من أي موقع أتيت ، فقط لتبشِّرني أن طعام الغذاء جاهز إن كنتُ لا أمانع في تقديمه ، وكأنها صاحبة بيتٍ تتقنُ وظيفتها الطبيعية داخله ، غبتُ في غرفتي لحظة لإحضار نقود سلّمتها للشرطية ، طالباً منها بعد الغذاء ، أن تصطحب معها الجزائرية لتشتري لها ما تحتاجه من ألبسة، وأيضا لتطبع على مفتاحَي البابين الخارجي والداخلي نسخة تحتفظ بها ، معتبرة نفسها أنها ليس ضيفة عليه ، بل يخصُُّّها في كل شيء ، عِلماً أن الأيامَ شخصياً لا أقارن مرورها بالملح يذوب ببلَل المماطلة ، بل بالأعمال المفيدة الحسنة ، المُستغلّة في طاعة الله وسنة رسوله ، ولن تكونَ في حاجة لشهادة نفاق المرأة الكاذبة ، عن صفاء وجهها من تجاعيد مرحلة اليأس ، لانعكاس ذاك الوجه الصبوح في عيناي كلّما تمعَّنت النظر فيهما عن قرب ، ولا حقَّ لأحدٍ علينا إلا الأقدار ، فلتتضرّع للحيّ القيّوم ذي الجلال والإكرام حُسنَ الختام . انصرفتُ لمشاغلي تاركاً إياها تكفكف دموع التأثر، والجزائرية تضمّها ضمّ الأم الحنون لطفلتها الرّضيعة .
… كان الأستاذ عمر بلشهب سليم التفكير طالما يلبي رغبة راودته ويعمل على إنجاحها بأقل التكاليف الممكنة ، فيبدأ ببناء المطلوب آجُرَّة بعد أخرى، مجربا إن كان مطابقاً لهندسة اعجاب الأبْعْدِ كالقريب من مستمعي ما حسبها إذاعته يحاول أن يضاهي بها حتى المركزية لو توفرت له ولو نصف الامكانات المادية ، لقد وصل بتجربته المهنية لمعرفته أنني قادر أن أضع يدي بيده لاكتساب ما قد يبدو أول وهلة مستحيلاً لا يُصدَّق ، لكنه يخشى أن أكون لا زلتً غاضباً عليه حينما اتصلت به ذات يوم قبل سفري للجزائر، عارضاً عليه خدماتي التي لو فكرّ فيها لوجدها منسجمة تماماً مع تطوير المجال الإذاعي بما يجلب اهتمام المستمعين لما تبثه من برامج تتجاوز المستوى العادي المتكرّرّ لما بعده من تجديد يساير المراحل بواقعية أكثر موضوعية وأصدق معالجة معبَّر عنها بأسلوب علمي مدروس يراعي أذواق المحليين أكانوا من المثقفين أو الحرفيين شيوخاً أو شباباً من الجنسين ، لكنّه قابل ذاك العرض بعدم اكتراث ، وكأنني بعيداً ما أكون من ميدان لا يقبل في “وجدة” المغمورين مثلي ، مهما كانوا على مستوى لا بأس به من الموهبة المعزَّزة بدراسة متخصّصة . طبعاً ما حقدتُ على أحد طوال حياتي ، بل هو أسلوب اتَّبعتُ ممارسته ، وكلما اعتمدته أوصلني لتحقيق أهدافي ، ليس هناك خط مستقيم حيال السائر صوب فرض وجوده في محيط منعدم الديمقراطية مكيّف على ذوق مصالح مُغلقة بأعقد مِزْلاَجِ ، ليبقى مَن في الداخل ينعمون بغنيمة نجاح حتى وإن كان غير مستَحَقٍ فهو دائم لغاية حدوث ما يستوجب تكسير ذاك المزلاج بارادة تفاجئ الجميع في وقت جد حرج يضطر مَن كان في ذاك الداخل للخروج حتى لا يختنق ذاتيا . كمحرك السيارة بغير وقود يتوقف ، الإذاعة في حاجة إلى إنتاج يومي وإلاّ توقفت عن البث ، الوقود كالإنتاج في حاجة لتمويل يكفى قطع المسافة المحدَّدة بالكيلومترات أساساً لسيارة ما ، أو البرمجة التي تغطّي المدة المحدّدة بالدقائق تماماً لإذاعة ما . وإذاعة وجدة الجهوية لا يصلها آنذاك إلا الفتات فتكتفي بتكرار المتاح ولا تتقدم لغيره حتى وإن عرَّضها الفاعل لخسران مستمعيها ، كل هذا جال في ذهني وأنا انتظر سماع ما سيفوه به “بلشهب” لتوضيح سبب مقابلتي وبترحيب حقيقي هذه المرة بعد عودتي من الجزائر .
– الجزائر شرعَت في بثّ حملة شرسة على المغرب ، المعلومات التي استطعنا الحصول عليها تشير أن العديد من المواطنين المغاربة يتتبعون مضامينها المغلَّفة بالافتراءات والمبالغات التي لا أساس لها من الصحَّة ، إذاعتنا للأسف الشديد لم تواكب نفس العملية لتجد أذاناً صاغية في الجانب الشعبي بعد الرسمي هناك في الجزائر ، وعلى الإذاعة الجهوية بوجدة القريبة من الشريط الحدودي ، أصبح من الواجب عليها الإطلاع بدور لا يقرِّب المراد بل يتغلَّب على الموجود حاليا كإنتاج مضموناً وأسلوباً ، وبصفتكَ صاحب تجربة في المجال ، ولك إسهامات ذات صدى واسع هناك في قلب الجزائر ، أطلب منكَ أن تضم مجهودكَ لمجهودي للخروج بنتيجة نبرهنُ بها عن كفاءتنا المهنية ، وقدرتنا الأكيدة في مواجه تلك الحملة الشرسة ، التي بقدر ما تكهرب الأجواء السياسية عندنا ، بقدر ما تزرع نوعاً من البلبلة ذات الأبعاد الخطيرة على عقول ناشئتنا ، فما رأيكَ أستاذ مصطفى ؟.
– رأيي أنكم تخاطبون الجزائريين إعلامياً بلغة لا يفهمونها ، والذي لا يفهم شيئا يتركه ، حتى التعاليق المكتوبة من بعض المثقفين والمُحللين السياسيين على كثرتهم في المغرب ، التي يقرؤها مصطفى العلوي بكيفية شبه دائمة لا ولن تفي بالحاجة ، لأنها مكتوبة بالعقلية المغربة ، وموجَّهة لنفس العقلية المغربية ، لذا تأثيرها داخل الجزائر منعدم تماما . الحل الوحيد في نظري مرتبط يبقي في تبنّي لغة أخرى يفهمها الجزائريون ، مهما كانوا وكيفما كانوا ، معزَّزة بحقائق ثابتة واقعية صحيحة ، وليكن الناطق بها خبير بأسرارها ومخارجها الصوتية وحتمية الوقفات بين جملها وكأنها قصيدة شعرية منظّمة بالعامية تجلب الاهتمام وتكسب التعاطف وتوظف المواقف التاريخية لمناضلي حقبة الكفاح الوطني الذين خاضوا معركة طرد المستعمر الفرنسي الغاشم .
– كيف لنا العثور على شخص يتوفّر على كل تلك الخصوصيات ؟؟؟.
– هو الجالس معك الآن .
– أنت؟؟؟ ، أكاد لا اصدق .
– صدق وأنت في تصديقك على صدق .
– كيف ستفعل، والمضمون الذي ستروّجه المناسب لحدث متجدّد باستمرار، ومن أين لك بالمعلومات الصحيحة والدقيقة ؟؟؟.
– تلك أشياء بسيطة هيّنة ، غداً سأزوّدك بمشروع برنامج ، سيجعل إذاعتكَ الجهوية هذه ، منارة إعلامية بقدر ما تضيء على العقول المغربية بما تدخله عليها من سرور وبهجة ، بقدر ما تغطي على حملة المساس بالمملكة المغربية من طرف الجزائر الرسمية ، بالفشل الذريع والخسران المُروِع . لا استطيع الآمنة مدَّ بتفصيل تجعلك على اطلاّع متكامل للمشروع/البرنامج ، لأنني على موعد وليمة عشاء تبرَّع عليّ بها رجل لا أعرفه أصلاً ، إذن ليلتكَ سعيدة ولقاؤنا غدا صباحا.
وصلتُ في التاسعة ليلاً كما حدده كموعد ذاك الرجل لأجده داخل سيارة أوصلتنا حيت “فلَّته” الواسعة المساحة، داخل حديقتها الغناء قدَّم لي زوجته وابنته التي صرختُ في وجهها ما هذه المسرحية؟؟؟. (يتبع)
الصورة : وجدة أواسط السبعينيات
التعليقات مغلقة.