مصطفى منيغ
الاختيار بين هذه أو تِيك صَعْبٌ في الوقت الحالي ، قد يطول ربَّما للعامِ أو العِقْدِ الموالي ، إذ الاستقرار على نمط إحداهما معناه العودة لأساليب العهود الخوالي ، عكس ما تراه الأخرى الإنكباب على الصعود بسهر الليالي ، وقضاء الآتي من أي أيام في اقناع المقربين من الأهالي ، أن الحل الأوحد في تركنا نحيا على هوانا نسترخص من أجل سعادتنا كل غالي ، ولا شيء غير الكلام في الأجوف وضياع ما حفظناه من حروف ثقافات لأهمِّيتها لا واحدة منهما تُبالي.
“التطوانية” بيْئة الجِهة الشَّرقية ستُطْفِئ ما رأتهُ شُعْلَة حضارةِ الغرْبِ التي أَلِفَت العيش في كنفِها وهي في أسبانيا ، فيقع لها ما أَحَسَّهُ الغُراب حينما أراد تقليد الحمامة ، ولمَّا تقمَّصَ دورها بنجاحٍ لا يُوصَف ، نسَي لونه الأسود ، فعدَل عن الفكرة لكنَّه لم يفلح ، إذ نسيَ ما عاش به على الفِطْرَةِ منذ خُلِق ، فَكَرِهَ نفسه بعدما نبذه مَن كانوا من جنسه حَوْلَه ، و الآنسة(ث) الثّورة عندها إن تُرِكَت وحدها ، في التغيير دون حصر الأخير ، في افراز تجزيء المجزّأ أو فيما هو أسوأ، الثورة البعيدة عن المفهوم السياسي التقليدي ، وإنما ثورة على الحياة الاجتماعية التي تربّت تحت نفوذ تقاليدها داخل “عين بني مطهر” أو ما يحيط بها من جِوار ، حتى التعليم العالي الذي تجاوزته بامتياز ، لم يؤثر في كيانها ، بل بقِيت لا تعرف لهجة غير التِّي تعوّد لسانها النّطق بها وهي طفلة ، غير قادرة على تطبيع طَبْعِها وفق الحَيّز الذي من المفروض التواجد داخله لاسباب موضوعية ولو مؤقتاً ، مندفعة بلا حدود لضبط ما ترغب فيه بمزاج إلْزام الغير على تقبُّلِه ، رافضة اقتسام ما وقع بين يديْها مع طرفٍ ثاني لا تختاره عن قناعة وإقناع ومصلحة تنتفع من ورائها مستقبلا. عرفُتها لما عرّفتني عليها بجُرأَةٍ لم أعهدها في أنثى مثلها ، تقدّمت نحوي لتخاطبني بغير مقدمات قائلة : تصوّر يا مصطفى يا منيغ ، أنني سأكون لكَ ، وأنتَ مهما أبْعَدَتْكََ الأيام في الأخير ستكون لي ، لذا المفروض أن لا نفترق منذ الآن.
لم أجد غير الضّحك أمام استغراب مجموعة من الطلبة ونحن أمام قاعة معدَّة ليلقي علينا داخلها زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الاستاذ المهدي بنبركة ، خطاباً أشار إليه المُقدّم أنَّه تاريخي سيظلّ مرجعاً يُستعان به لمقارنة ما كان الشعب المغربي يطمح إليه من التمتّع بحقوقه الكاملة ، وما هو عليه الآن من حالات يُرثى لها بسبب سياسة لا تمثّل إلا تكريس المصالح المادية لأقلية معروفة وليذهب الباقي إلى الجحيم ، وأشياء من مثل النقط التي تعرَّض لها ذاك الزعيم دون أن يأتي فيها بجديد ، كرَّرناها قبله في “تطوان” وأكثر منها ، تنتهي دوماً بركوضنا بين أزقة المدينة العتيقة والشرطة تطاردنا تهدّد بالويل من يقع منا بين أيديها ، لهذا انسحبتُ من تلك القاعة وكانت الآنسة (ث) تلاحقني صارخة في وجهي: ألم أقل لك أننا لن نفارق بعضنا البعض تحت أي ظرف كان . عهدتُها من تلك المرحلة العجيبة من حياتي ، نِعْمَ الأنيسة الباعثة في نفسيتي الشعور بكوني لستُ وحيداً في تلك المدينة “الرباط” الصَّعبة على أمثالي ألمُنعدمي الدَّخل ، المحرومين من كل شيء ، الصابرين الباحثين على تسديد الرمق بالحلال وتأدية أي عمل شريف من ورائه كسب دريهمات ، مهما كانت قليلة تكفي لأداء أجرة المبيت ولو في فندق عديم الدرجة خارجٍ عن أي تصنيف ، وحساء ساخن مرة واحدة في يوم وليلة ، جعلتُ من الفتاة كل أهلي ، لا أفارقها إلا متوسلاً كي تتركني انصرف لدراستي ومشاغلتي التي أضمن بها بقائي في تلك المدينة ، التي لا ترحم أبداً الغرباء عنها مثلي ، كانت تعلم بحالي ولطالما اقترحت عليَّ (وأحيانا باكية) ، أن تساعدني بمبلغ أتغلب به على نوائب الدهر التي أصابتني مُبكِّراً ، لكن رفضي كان قاطعاً رغم معرفتي بثراء عائلتها المستقرَّة في نواحي وجدة .
أعياني البقاء داخل جو لا يرحم ، وعيش جفت منه أساسيات الاستمرار في داك المكان الأنيق العمارات الخالي من إنسانية التصرفات ، فقررتُ العودة إلى تطوان بعدما ودَّعتُ الآنسة (ث) وداعاً لا لقاء بعده ، لكنها حال الدنيا والمصير المُقدَّر ها أندا معها وجهاً لوجه في خيمة من خيم أهلها وسط عالم هي فيه الأميرة الآمرة الناهية ، والجميع متجاوب مع رغباتها لما تمثله من مكانة محترمة مفعمة بالإعجاب و الحب ، ها أندا حيال الإنسانة التي طالما ارادت مساعدتي وهي طالبة في عمر الزهور ، والتي تكرِّر عليَّ نفس المساعدة وقد بلغنا سناً المفروض أن يجمعنا فيه حال يؤهلنا لما لا يحتاج لبيان لوضوح مضمونه ، طبعا “التطوانية ” كظلّي لا تمنح لنا أي فرصة كي نتطرَّق لما يبعدنا عما نحن بصدده والذي حضرنا لغاية هنا من أجله ، لذا قررنا العودة إلى المركز للاجتماع مع أصدقاء آخرين لاستنباط ما يُظهرونه من موقف أعتمدُ عليه لتعيير قراري بمشاركة تلك اللجنة وما تطلبه مني ، أو استَمِر رافضاً ، لكن كَيْدَ النساء أكبر ممَّا قد نتصوَّر ، فقد ابتدعت الآنسة (ث) طريقة تُبعد بها “التطوانية” ليخلو لنا الجو ولو لساعة ، نتناقش أثناءها وبحرية تعبير ، وصولاً للنّظر في مستقبلنا الثنائي ولا شيء آخر ، جاءت صاحبة الدار والخيم و كل ما هناك ، طالبة من “التطوانية” مرافقتها لنقش يديها ورجليها بالحناء ، كما يفعلن النسوة بوالدتها في تلك اللحظة ، فما كان لها من باب الاحترام واللباقة ، إلاّ أن تُلبّي مثل الطلب ، وإن كانت قبل انصرافها سلّطت عليّ نظرة فهمْتُ قصدها بابتسامة فهمَت هي أيضاً معناها.
… الطَّبيعِي لا مناص من تقبُّله عن طيب خاطر، كالأصل ثابت والمُحْدَث في أي لحظة طائر ، مهما المرء ابتعد المكتوب له زائر ، ليصبح كما شاء مََن للأرض والسماوات فاطِر، منهياً المسير على طريق ما خُلِق ليمكث فيها ذاك القاصر ، إذ لكلّ أوان وَضْع في الحياة أحبَّ أم أَبَى ناظر ، اليوم له كالسنين الماضية لكن الزمن غادر ، فالأحسن الإبقاء على الطبيعي المتوفر في الآنسة (ث) بدل التنقُّل (ولو بنية حسنة) بين بؤر المخاطر.
… قلتُ لها بغير إطالة نفّذي ما تريناه مناسباً يجمعُنا في صمتٍ مشروع ، يُنهي ما ذرفتيه سراً من غزير دموع ، شاهد عليها بلل وسادة تاركاً كُحْل رموشك على بياضها رَسْم أسمي موشَّح بنور الشموع ، وتذكَّري كَمْ كنتُ نبيلاً معكِ ما هزّني إغراء أنوثتكِ ولا فتنني جمال قدّكِ لهدفٍ شريف في قَلْبَيْ حُبِّنا موضوع ، إلى هذا اليوم حيث ثقتنا فيما سنقبل عليه بإرادتينا الحرتين بين تاريخه مودوع .
في الصباح الباكر تكونت قافلة توجهنا إلى المركز من سيارة الآنسة (ث) الآخذة لي بجانبها ، متبوعة بسيارة “التطوانية” ووالدتها ، وأخيرا الشاحنة الناقة بعض الرجال العاملين في ميدان الرّعي مع الشريف (بو….) ، بعد فترة توقفنا عند حاجز تفتيش أقامته دورية من رجال الجمارك ، فاتجهتُ مرفوقاً بالفتاتين لأسلّم عليهم وهم السادة : المخنطر والمختار والأندلسي ، ورئيسهم عبد السلام الذي عانقني بحرارة ناقلاً إليَّ أن أحد الجزائريين أخبره أن الدرك الجزائري وزَّع على بعض المتعاونين معهم داخل الجانب الأخر من الحدود ، صورتي طالباَ منهم القاء القبض عليك بأي وسيلة تمكنهم من ذلك ، وليتصلوا بهم لاعتقالك فورا ، لقد أحطتُ السلطات المعنية بالأمر ، لذا أنصحك بمغادرة هذه الناحية بأسرع وقت ممكن ، حتى لا نفقدك وأنت عزيز علينا ، شكرته واستأنفنا الطريق . في “عين بني مطهر” وجدتُ الشاب أحمد متَّجهاً نحو السوق ، طلبتُ من الآنسة (ث) مُرافقته حيث شاء وتشرح لوالده أن يدعو أصحاب الأسماء العشرة المكتوبة في الورقة الممنوحة لها من طرفي ، للعشاء معنا في الخيمة المعلومة التي يعرفها .
وأن تطلبي من زوجته تحضير وجبة الدجاج التي اشتقتُ لطبخه وفق الطريقة الخاصة بها ، وأن تتركَ “المشوي” جانباً هذه المرة ، بعد ضبط كل تلك الأمور ستجدني في انتظارك عند مقهى صديقي العزيز ، صاحب البشرة السوداء والقلب الطيّب الكبير ، فاستبشرت التطوانية خيراً بكوني سأنتقلُ لجوارِها كي تسمعني ما تودُّ أن تسمعَني إياَّه ، لوضعِ النُّقط على الحروف من طرف امرأة بدأت الغيرة تأكل هدوءها المعهود ، طلبتُ منها تأجيل ما يدور في خُلدها لغاية اتمام البرنامج الذي رتّبتُ فقراته بنظام وانتظام ، وأن تسوق السيارة ساكتة لغاية مقر القيادة حيث سنُستقبل من طرف القائد “اليونسي”، المرحّب كان بكيفية طبعت في ذهني إخلاص رجل السلطة لمسؤولية الحفاظ على اليقظة والتأهّب مهما كانت الساعة ، قياماً بواجباته داخل تراب نفوذه ، وليخبرني أنّ السيد العامل مهتم بوجودك معنا طالباً مني شخصياً التدخّل إن طرأَ ما يستوجب التدخّل ، خاصة وأعين الأعداء متربّصة بك . شكرتُه على الاهتمام وما حافظ عليه من أواصر الصداقة التي تربطنا من أوَّل ساعة عُيّنَ فيها على رأس هذه القيادة ، التي كان له فيها تاريخ ، وبخاصة ذاك اليوم الذي تم فيه انقلاب الصخريات ، فطلع علينا بالزىّ العسكري مستعداً للدفاع عن الملكية والملك الحسن الثاني حتى بروحه ، طالباً أن ابقَي معه أقرب مساعد ، مهما تجوّلتُ بين “الدواوير” لتقييم الوضعية وتوعية الناس لتبقَى “عين بني مطهر” بمن فيها ، على هتافٍ واحد عاش الملك . (يتبع)
التعليقات مغلقة.