كثيرا ما يربط البعض إشكالات الماء بالتغيرات المناخية المفاجئة والسيئة، ويضع عليها كل المسؤولية ليريح نفسه أمام المواطن ومحاسبته الشديدة، ويكتفي بقول إنه القدر لا ينفع معه التدبير ولا الحذر، ونظرا لجلاء هذه الظواهر وخطورتها وعامل الطبيعة فيها، فإن الأمر يبدو عادياومستساغا، بل ومقنعا، وإن حمل ما يحتمل سياسيا وتدبيريا، فتأثير الاحتباس الحراري وتلوث الماء والهواء وقلة التساقطات واستنزاف الطاقات الأحفورية والفرشات المائية، أمر واضح على مستوى البلاد ومصالح العباد، ولكن هناك من يرى أن الأمر مسألة حقوقية قبل كل شيء، والمعضلة البيئية عموما، والمائية منها خصوصا، ترتبط بالمسؤولية والحكامة قبل غيرها، وأكثر من غيرها، في نفس الوقت؟.
ما أجمل أن ندبج دساتيرنا ونلائم قوانيننا بمسألة حقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها دوليا، وما أجمل أن ننشئ لذلك مجالس استشارية ولجن جهوية وجمعيات حقوقية، ونجتهد غاية الاجتهاد في تنزيل برامج سياسية تنموية باختيارات اجتماعية وتربوية، ربما إلى حد التخمة والاسهال، لكن أين رجع الصدى لكل هذا عند ساكنة الواحات وأرياف الجبال وهم يقضون كل يوم ساعات وساعات في البحث عن قطرة الماء في ماراطون “سيزيفي” لا ينتهي؟، أين هذا الصدى في المدن الكبرى التي تحرم ساكنتها من هذه المادة الحيوية خلال الصيف ساعات وساعات؟، أين هو، في العديد من المناطق المتضررة والمهددة بالجفاف والعطش وموجات النزوح الجماعي القسري نحو المجهول؟.
ماذا يعني أن ينخفض معدل الاستهلاك الوطني السنوي للمواطن من الماء من 1000 م3 إلى 650 م3 ،في حين أن المستهلكين الكبار في الفلاحة وتجارة المياه المعدنية، يدوم لهم استهلاكهم ويتضاعف استنزافهم بعيدا عن خطاب الأزمة؟، ماذا يعني أن تكون مجمل الثروات المائية (80%) مركزة في محورها الشمالي الغربي (7%)، في حين تظل غيرها من المناطق في الجنوب، والجنوب الشرقي، تحت رحمة التساقطات النادرة؟، صحيح أن ربط الساكنة بشبكة الماء الصالح للشرب قد بذل فيه جهد كبير وقد عم وطنيا حوالي (86%) وزيادة، ولكن إلى متى غلاء تكاليف الربط وخدمات الاستهلاك إلى درجة أصبح المواطن يدفع مقابلها حوالي (20%) من دخله المتواضع، والمنعدم في كثير من الأحيان؟.
هل نعلم أن عجز الماء في معظم الدول العربية قد بلغ إلى (30%)، وأن معدل استهلاك مواطنيها من الماء يقل عن المعدل العالمي ب (10 مرات)، وأن هذه الدول التي طالما نشدت وتنشد التنمية لا تنفق على الماء ما يلزم رغم أن الدراسات تؤكد أن صرف دولار واحد في الماء يعود على صاحبه ب (34 دولار) في التنمية المستدامة.
إنها مسألة الحق في التنمية، في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، في الأمن والاستقرار والرفاه الاجتماعي؟، هل تعلمون أن النساء في بعض المناطق الريفية يقضين حوالي (4 ساعات) في اليوم لجلب الماء؟، وأن كثيرا من فتياتهن جراء ذلك لا يلجن المدرسة إطلاقا، أو حتى إن ولجنها فسرعان ما يقعن من ضحايا هدرها المدرسي للبحث اليومي عن قطرة الماء؟.
إن توفير الماء لكل مواطن من الحقوق الأساسية التي أقرتها المواثيق الدولية، والدساتير الوطنية، ولكن، هل يمكن ذلك في غياب أو ضعف الانفاق المائي التنموي المناسب، أو في غياب عدالة وأمن مائي، الذي هو روح الأمن الروحي والاستقرار الاجتماعي؟، آن الأوان لإبداع سياسة مائية وطنية تعتمد البحث العلمي الرصين والمثمر للحفاظ على المخزون من ثروتنا المائية وتعبئة مواردها؛ لحسن تدبير التساقطات وتخزينها، لدعم السدود الكبرى بما يلزم من السدود الصغرى، لتبني تقنيات جديدة ومثمرة في التعبئة المائية، كالتحلية والمعالجة وصيد السحب، لتغيير أساليب الري من العشوائي إلى الاقتصادي، لتجريم التلوث والتبذير المجاني خاصة في المجال الفلاحي وبعض مزروعاته المستوردة (85%)، وفي المجال التجاري (10%)، الذي قد يكون على حساب المواطن الذي يمثل الحلقة الأضعف في كل هذا، إذ لا يتعدى استهلاكه من الماء حوالي (3%)، ورغم ذلك قد يرخص سوء حكامة السلطات ورشاوي الوساطات باسم الاستثمارات، قد يرخص لمعمل ماء معدني يستأثر على عيون ساكنة في منطقة “أطلسية” لتموت نزوحا وعطشا هي وحقولها وبهائمها ومشاريعها السياحية والترفيهية؟.
فمتى سنمنع مثل هذا الجرم المائي والاستثماري؟، بل وكيف سنمنعه دون مقاربة حقوقية، ونحن نحتل الرتبة (114/170) في الأمن المائي العالمي، و(160/180) في مؤشر الأداء البيئي العالمي؟.
التعليقات مغلقة.