عندما سافر الزعيم الفلسطيني “ياسر عرفات” إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1974 ليُلقي خطابا من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة باسم الشعب الفلسطيني قال في نهاية خطابه: (لقد جئتكم يا سيادة الرئيس بغصن الزيتون مع بندقية ثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي).
إن من سمات ثقافة المقاومة الإنتشار والشيوع والقبول والثبات فهناك إجماعا عالميا على حق الدول والجماعات والأفراد عند تعرضهم لعدوان أو إحتلال في تبني المقاومة وممارستها بكل أشكالها المادية والمعنوية في مختلف الجوانب كالفكرية والأدبية والعسكرية والسياسية والمالية فالمقاومة هي ردة فعل مشروعة لمواجهة فعل غير مشروع وهذا من المشترك الإنساني الذي لا خلاف عليه لتوافقه الكامل مع الفطرة البشرية، ولأن ثقافة المقاومة لا تموت نعم قد تضعف وتتوعك لعدة أسباب لكنها تبقى بذرة حية قابلة للنماء والإستنهاض عند أول قطرة مطر لتزهر وتثمر من جديد .
قد تنامت في هذه الفترة خاصة بعد الإنتصار الكبير في معركة(طوفان الأقصى) 07 أكتوبر 2023 فالمقاومة المسلحة وجدت حاضنة شعبية عريضة في الداخل والخارج وتنوعت أساليب المقاومة فظهر أدب المقاومة من شعر ونثر وفن بمختلف صوره وازدهرت أناشيد الثورة الفلسطينية وانتشرت كلماتها على ألسنة الصغار والكبار وتجذرت ثقافة المقاومة في المجتمع الفلسطيني وفي شعوب العالم التواقة للتحرر بشكل غير مسبوق.
إن ثقافة المقاومة مفهوم إنساني وحق مشروع معروف في القوانين الدولية والأعراف الإنسانية وله ضوابطه وروابطه وآدابه وأخلاقه فهي في مفهومها العام ردة فعل مجتمعية واعية ضد واقع مرفوض أو غير مشروع أو لمواجهة إستبداد أو إستعباد أو ظلم أو تمييز أو إحتلال…الخ ويزخر التراث الثقافي الإنساني بظواهر متنوعة من المقاومة يتفاعل معها الناس وترتبط قدرتها على تحقيق أهدافها بدرجة إحتضان المجتمع لها، وعلى سبيل المثال فإن ثقافة مقاومة الإحتلال الإسرائيلي بكل أشكالها هي حق مشروع يستند إلى مبدأ حق تقرير المصير للشعوب المكرس في ميثاق الأمم المتحدة والقرارات الأممية ومبادئ القانون الدولي.
وتتخذ أشكالا ونماذج متنوعة كالإنتفاضات الشعبية والإحتجاجات والعصيان المدني والمقاطعة والكتابات والمسرحيات والفنون التشكيلية وقد حققت ثقافة المقاومة بهذا المفهوم إختراقا في دراسات العلوم الإجتماعية والأنثروبولوجيا وطورت شعوب عدة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
إن ثقافة المقاومة تتطلب تقديم أجوبة غير نمطية تعيد التفكير في قضية المقاومة وثقافتها باتجاه تطويرها وإعادة الإعتبار لها كرسالة إنسانية وتمكينها وتوطينها في ثقافتنا العامة وتحكمها معايير وقواعد ونظام أخلاقي وقانوني ولا تختطف من قبل مصالح ضيقة ومحاور سياسية ميكيافيلية، إننا بحاجة إلى إختبار فاعلية خطاب ثقافة المقاومة في ظل هذه التحديات ومساءلة أهل القلم والإبداع بشأن إسهاماتهم في تعزيز ثقافة تربي الأمل وتعيد العافية للنسيج الأهلي وتقاوم الشبق المرضي بالسلطة والذي أصبح قاسما مشتركا للقوي والنخب السياسية على إختلاف فكرها وألوانها.
إن الدفاع عن كل ما هو نبيل وجميل وإنساني هو مقاومة والمحبة مقاومة في زمن الكراهية والتعصب والصدق مع الذات ومع الآخر هو مقاومة للكذب وتعزيز ثقافة المساواة والمواطنة هو مقاومة للتمييز وفضح وتفكيك ثقافة التكفير هو مقاومة للتخلف والظلامية واسترداد إنسانيتنا المختطفة هو مقاومة وإطفاء الحرائق المشتعلة في دين ودنيا المجتمعات العربية والمسلمة هو مقاومة وطنية وكذلك الأمر مع ثقافة مقاومة الفساد والإستبداد والفتن الطائفية والمذهبية والإثنية هو مقاومة.
إن ثقافة المقاومة هي روح تسري في شرايين المجتمع الفلسطيني وفي عقله وفي من يسانده من أحرار الأمة وشرفاء العالم وتنعكس هذه الروح في فضاءات الحياة الإفتراضية والواقعية وتفرض نفسها حتى تحقق غاياتها والحاضنة الشعبية للمقاومة هي من أهم ركائز النجاح فقد ضربت في فلسطين أروع الأمثلة في تحملها وصبرها وبذلها ودعمها في غزة المنكوبة الصابرة وفي جنين ونابلس والقدس والخليل المحاصرين.
فحيثما حلت المقاومة وجدت هذه الحاضنة تبذل وتضحي وتدفع الثمن بنفس راضية مطمئنة وهذه غزة المقاومة تضرب أعظم الأمثلة في رسوخ ثقافة المقاومة فيها وما تلك الرسالة المدهشة التي وجدها المقاومون في أحد البيوت في غزة المدمرة (فداكم البيت طوبة طوبة) فثقافة الشعب الآن تميز بين الغث والسمين وبين المقاوم والمطبع، وإن شعوبا يحملون فكر ثقافة المقاومة وهذه الروح لن تكسر لهم راية ولن يتراجعوا حتى يحققوا الغاية وإن غدا لناظره قريب.
عبد الإله شفيشو/فاس
التعليقات مغلقة.