حاول رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن آنذاك إيهود باراك، في عام 2010، توجيه ضربات عسكرية إلى المشروع النووي الإيراني، الذي كان لا يزال في مراحله الأولى، إلا أن رؤساء أجهزة الأمن الإسرائيلية – مائير دغان، رئيس “الموساد”، وغابي أشكنازي، رئيس أركان الجيش – اعترضوا بشدة، وتمكنوا من منع تنفيذ الهجوم. ومنذ ذلك الحين، أصبح المشروع النووي الإيراني يشكّل الهاجس الأمني المركزي للمؤسسة العسكرية والأمنية في إسرائيل، والقضية الأبرز لدى صنّاع القرار السياسي.
عملت إسرائيل خلال السنوات التالية على مواءمة قدراتها العسكرية الجوية مع متطلبات تنفيذ ضربة محتملة على المشروع النووي الإيراني، من حيث تجاوز المسافات الجغرافية، والتعامل مع التحصينات، وتوزيع المنشآت النووية الإيرانية على عدة مواقع. وقد انتظرت إسرائيل الظرف المناسب لتنفيذ هذه الضربة، آخذةً بعين الاعتبار عوامل متعددة، من بينها: جهوزية الجيش، وحالة المجتمع الإسرائيلي، وموقف الإدارة الأميركية، والسياق الإستراتيجي الإقليمي في الشرق الأوسط. بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، تغيّرت المعطيات والظروف في كافة المحاور، وكثّفت إسرائيل من وتيرة تهديداتها لإيران.
لم يكن الهجوم الإسرائيلي الواسع صباح الجمعة، 13 حزيران، على منشآت المشروع النووي الإيراني والقواعد العسكرية الإستراتيجية، واغتيال قيادات عسكرية وعلماء في مجال الذرّة، مفاجئًا بحد ذاته؛ لكن توقيته كان بالفعل مفاجئًا، إذ جاء قبل يومين فقط من الجلسة الأخيرة للمفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران، والمقرّرة يوم الأحد، 15 حزيران. كان الاعتقاد السائد أن إسرائيل لن تبدأ هجومها إلا بعد انتهاء جولة المفاوضات الأخيرة، خصوصًا في ظل توقّعات بفشل المفاوضات. وكانت الفرضية أن الضربة ستقتصر على المنشآت النووية، لا أن تفتح إسرائيل حربًا شاملة مع إيران. وقد جاء الهجوم بعد عدة مؤشرات واضحة على نية إسرائيل القيام بضربة ما للمنشآت النووية، منها تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأن إسرائيل تنوي مهاجمة إيران، وإخلاء الولايات المتحدة لعدد من سفاراتها في المنطقة، والمناورات العسكرية الإسرائيلية التي يصعب إخفاؤها، لا سيما الجوية منها.
لماذا الآن؟
باتت إسرائيل، في الأشهر الأخيرة، على قناعة بأن إيران تمرّ في أسوأ أوضاعها الإستراتيجية، وأنه بات من الممكن تنفيذ هجوم عسكري إذا رفضت إيران اتفاقًا وفق النموذج الليبي – أي تفكيك البرنامج النووي بالكامل. في المقابل، كانت إسرائيل مستعدة في مراحل سابقة للقبول باتفاق بشروط أقل، خصوصًا في ما يتعلّق بمواضيع مثل تخصيب اليورانيوم لأغراض مدنية وزيادة الرقابة الدولية والأميركية على البرنامج النووي الإيراني، وذلك بسبب صعوبة توجيه ضربة عسكرية حينها، ومعارضة الإدارات الأميركية المتعاقبة لمثل هذه الضربات.
تغيّرت شروط وإستراتيجيّة إسرائيل بعد أن وجّهت ضربات قاسية لقدرات حزب الله العسكرية، وضربات مدمّرة للبنية العسكرية لحركة حماس، إلى جانب انهيار النظام السوري السابق. عسكريًا، ووفقًا للحسابات الإسرائيلية، بات الثمن المتوقّع لأي هجوم عسكري على إيران مقبولًا ويمكن تحمّله، خاصة في ضوء سهولة تنفيذ الضربات التي وجّهتها لإيران في نيسان وتشرين الأول من عام 2024 – وخصوصًا استهداف منظومات الدفاع الجوي الإيرانية إلى جانب الرد الإيراني المتواضع، ونجاح تجربة الدفاعات الجوية الإسرائيلية في مواجهة الصواريخ والطائرات المسيّرة الإيرانية. كل هذه العوامل عزّزت قناعة إسرائيل بقدرتها على توجيه ضربة عسكرية لمنشآت إيران النووية بثمن مقبول.
المتغيّر الإضافي المهم الذي مكّن الهجوم في هذا التوقيت هو موقف وسياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فعلى عكس تصريحاته العلنية وتصرفاته منذ دخوله البيت الأبيض – والتي ادّعى فيها أنه يسعى إلى وقف الحروب وليس إشعالها – فقد سهّل ترامب مهمة إسرائيل ومنحها الضوء الأخضر لتنفيذ الهجوم. فمنذ تولّيه الرئاسة، قام ترامب بتسريع تزويد إسرائيل بالقذائف والأسلحة التي كانت مجمّدة في عهد إدارة بايدن، كما بدأ مفاوضات مع إيران كشفت عن صعوبة التوصّل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني وفق الشروط الأميركية، ومهّد بذلك للهجوم الإسرائيلي. وما تسرّب حتى الآن من معلومات يُشير إلى أن الهجوم الإسرائيلي على إيران تمّ بالتنسيق الكامل مع الإدارة الأميركية، بل إن الولايات المتحدة كانت شريكًا في عملية التضليل التي نفذتها إسرائيل تمهيدًا للهجوم.
يمكن القول إن إسرائيل سعت إلى استغلال الظرف الناشئ بعد السابع من أكتوبر، من خلال توجيه ضربات قوية لمحور إيران في المنطقة، مستفيدة من وجود رئيس أميركي يتبنّى شروطًا أقرب إلى الموقف الإسرائيلي، بهدف فرض معادلة جديدة في الإقليم وخلق واقع إستراتيجي مختلف عمّا كان قائمًا بعد السابع من أكتوبر. تصرّفت إسرائيل انطلاقًا من غطرسة وفائض قوة وثقة بالنفس، وبفضل دعم أميركي غير مشروط، ونفّذت ما كانت تسعى إلى تحقيقه منذ عقود.
مصالح نتنياهو
من الواضح أنه لا يمكن فصل توقيت القرار العسكري الإسرائيلي بالهجوم على إيران عن البُعد السياسي ومصالح نتنياهو الشخصية والسياسية. فنتنياهو يحتاج إلى استمرار حالة الحرب والطوارئ لضمان بقاء التحالف الحكومي، خصوصًا بعد أن هددت الأحزاب الحريدية بالانسحاب من الائتلاف والتصويت، الأسبوع الماضي، لصالح قانون حلّ الكنيست، وذلك بسبب عدم إقرار قانون إعفاء طلاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية.
كما يسعى نتنياهو بكل قوة إلى طمس صورة الإخفاق الكبير في السابع من أكتوبر، ولا يريد أن يُذكر في كتب التاريخ باعتباره رئيس الوزراء المسؤول عن أكبر فشل أمني في تاريخ إسرائيل. بل يطمح لأن يُذكر اسمه بوصفه القائد الذي قضى على المشروع النووي الإيراني، وحمى إسرائيل من أكبر تهديد وجودي لطالما حذّر منه منذ نحو عقدين.
فضلًا عن ذلك، فإن فتح جبهة واسعة مع إيران يُسهم في تراجع الاهتمام الإعلامي بالحرب على غزة، ويُضعف التركيز على قضية الأسرى والمخطوفين، وعلى الضغوط الداخلية للتوصل إلى اتفاق مع حركة حماس. كما يُخفّف من الضغوط الخارجية المتزايدة والانتقادات الأوروبية المتصاعدة ضد إسرائيل. وقد تحوّلت الحرب على غزة إلى جبهة ثانوية مقارنة بالحرب على إيران – وكل هذه التطوّرات تصبّ في مصلحة نتنياهو السياسية والشخصية.
يبدو أن نتنياهو يدرك أن نهاية التحالف الحكومي الحالي باتت وشيكة، نتيجة التناقضات الداخلية. في ظل هذه الظروف، يكون الهجوم على إيران مغامرة سياسية محسوبة. فنجاح الهجوم يمكن أن يُلغي عار السابع من أكتوبر، ويُعزز مكانة نتنياهو السياسية، ويوفّر دفعة معنوية كبيرة لمعسكره وداعميه. حينها، قد يُبادر نتنياهو بنفسه إلى تقديم موعد الانتخابات البرلمانية، ليكون عنوانها القضاء على القدرات النووية والعسكرية الإيرانية.
هل تستطيع إسرائيل تحمّل الأثمان؟
بطبيعة الحال، لا يمكن أن تكون المغامرات العسكرية مضمونة تمامًا أو بنسب عالية من النجاح. صحيح أن إسرائيل تمتلك تفوقًا جويًا واستخباراتيًا واضحًا على قدرات إيران، وأنها نجحت في الساعات الأولى من الهجوم في توجيه ضربات قاسية لقدرات إيران العسكرية والمنشآت النووية، إلا أنها تدرك جيدًا أنها لا تستطيع بمفردها تحقيق تدمير شامل للمشروع النووي الإيراني، وأنها ستحتاج في مرحلةٍ ما إلى دعم ومساعدة الولايات المتحدة.
كما لا يمكن التكهّن بمدى قدرة إيران على الردّ على الهجوم. إطالة أمد الحرب مع إيران قد تؤدي إلى تصاعد الخسائر البشرية والمادية داخل العمق الإسرائيلي، الأمر الذي قد يُفضي إلى تراجع دعم المجتمع الإسرائيلي لهذه الحرب، التي تعتبرها إسرائيل حربًا وجودية وتحظى بإجماع حتى الآن. وإذا ما تمّ ربط الحرب بأهداف نتنياهو الشخصية والسياسية، فقد تتحوّل إلى موضوع خلاف وانقسام إضافي داخل المجتمع الإسرائيلي والمنظومة السياسية، مما يجعل منها عبئًا سياسيًا إضافيًا على الحكومة، وعلى نتنياهو نفسه.
في ظل الوضع السياسي الراهن في إسرائيل، وحالة الإنهاك العام نتيجة الحرب الطويلة على غزة، وتراجع الثقة في الحكومة، وتدهور الوضع الاقتصادي، فإن نشوة الهجوم على المنشآت النووية والمعسكرات الإيرانية قد تتحوّل سريعًا إلى عبء سياسي، خاصة إذا تمكنت إيران من الصمود وبدأت بردّ جدي ومؤلم على الهجوم الإسرائيلي.
التعليقات مغلقة.