أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

الوفاء لرجال الوطن: الكولونيل مصطفى بوكلاطة في ذاكرة العسكرية المغربية

جريدة أصوات

أصوات من الرباط

في لحظة وفاء نادرة، نستحضر سيرة رجل من طينة الكبار، الكولونيل مصطفى بوكلاطة، أحد رجالات المؤسسة العسكرية المغربية الذين خدموا الوطن والملك بإخلاص ومسؤولية حتى آخر لحظة من حياتهم. رحل الجندي، وبقيت بصماته شاهدة على مسار عسكري صلب، دقيق، منضبط، ومشرف.

ولد الفقيد في زمن كانت فيه البلاد بحاجة إلى رجال يؤمنون بالواجب أكثر من الامتيازات. اختار درب العسكرية، وسلكه بكل التزام. لم يكن مجرد ضابط، بل كان نموذجاً يحتذى في الدقة والانضباط، وهو ما دفع القيادة إلى تكليفه بمهام حساسة، منها قيادة مستودع الذخيرة ، ثم توليه مسؤولية مفتش مستودعات الذخيرة ، وهي مهام لا تُسند إلا لمن أثبت الكفاءة والثقة والانضباط المطلق.

كان الكولونيل مصطفى بوكلاطة من أوائل الضباط المغاربة الذين تخرجوا ضمن فوج محمد الخامس لأكاديمية المشاة في طليطلة بإسبانيا خلال سنتي 1956 و1957، وهي من أعرق المؤسسات العسكرية في أوروبا، وكانت محطة أساسية في تكوين أولى دفعات الجيش الملكي بعد الاستقلال. هذا التكوين الصارم والعالي المستوى كان له الأثر العميق في تشكيل شخصيته العسكرية، التي اتسمت بالانضباط المهني والصرامة في أداء الواجب.

في سجله الميداني، شارك الكولونيل بوكلاطة في محطات مصيرية من تاريخ المغرب المعاصر:

حرب الرمال (1963): اندلعت بين المغرب والجزائر بسبب نزاع حدودي في مناطق الجنوبية. شكلت هذه الحرب أول اختبار فعلي للجيش المغربي بعد الاستقلال.

حرب أمغالا (1976): وقعت بعد استرجاع المغرب لأقاليمه الجنوبية، حيث تصدت القوات المسلحة الملكية لمحاولة تسلل من الجانب الاخر في منطقة أمغالا.

في كل هذه المحطات، وقف في صفوف المدافعين عن وحدة الوطن في وجه أطماع الخصوم. لم يكن حضوره رمزياً، بل كان في قلب الجبهات، يخطط، ينفذ، ويوجه، مؤمناً أن الدفاع عن الأرض شرف لا يضاهيه شرف.

لم يكن الكولونيل جندياً فقط، بل كان رب أسرة. أنجب ستة أبناء: أربع بنات وولدين. لم يفصل بين حياته المهنية والعائلية، بل نقل قيمه العسكرية إلى بيته. غرس فيهم الانضباط، الوطنية، والاعتزاز بالانتماء. وقد سار أحد أبنائه على خطاه، فالتحق بدوره بصفوف الجيش المغربي، إلى جانب أفراد آخرين من العائلة، تكريساً لهذا الإرث العسكري العائلي الذي أسسه بكفاحه ومبادئه.

وقد واصلت بعض بناته مسار العطاء في مجالات مدنية ومؤسساتية كبرى. إحدى بناته وشّحها جلالة الملك محمد السادس بوسام الاستحقاق الوطني من الدرجة الأولى، اعترافاً بمساهمتها في خدمة المرفق العمومي. في امتداد واضح لقيم الجدية والكفاءة التي زرعها والدهم فيهم.

في إحدى اللقاءات العائلية، تفاجأ الحاضرون حين دخل أحد أفراد عائلته من أبناء المؤسسة العسكرية على الكولونيل بدأ اللقاء بتحية عسكرية صارمة، تلتها لحظة واحترام متبادل، ثم عناق عائلي دافئ. الانضباط، الوقار، والهيبة التي رافقت المشهد ” أربك” بعض أفراد العائلة ممن لم يعتادوا على هذا النوع من التفاعل العائلي ، وبقيت تلك اللحظة راسخة في أذهانهم حتى اليوم، كمشهد فريد يُجسد معنى الانتماء الحقيقي للوطن ، و للمؤسسة العسكرية تحت القيادة العليا للصاحب الجلالة الملك .

مسيرته الطويلة من بوزكارن، المناطق الجنوبية، طنجة وجدة… لم تمر دون تقدير. فقد حاز على وسام ضابط ممتاز، تكريماً لعطاءاته الميدانية والتزامه الثابت بخدمة الوطن والملك.

رحل الكولونيل مصطفى بوكلاطة جسداً، لكنه بقي حياً في ذاكرة المؤسسة العسكرية، وفي ذاكرة من عرفوه وعملوا تحت قيادته. رجل من زمن الوفاء، وجندي من طينة الوطن.

التعليقات مغلقة.