أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

بين منطقي الخبز و الثروة مفارقة الأرواح (وقفة على فاجعة طنجة و كل الفواجع)

بقلم محمد حميمداني

لن نتحدث عن فاجعة طنجة و عدد الشهداء الذي وصل إلى 30 شخصا و معدل الإحصاء لم يتوقف ، و لن نقف عند حدود اعتقال مسير المؤسسة مكان واقعة المعاناة ، و لن ندخل في تفاصيل تجزؤ المحتوى لترجعه في نهاية التقارير إلى خطأ أو تماس كهربائي ، و يغلق الملف في انتظار فاجعة أخرى ، لأن مسلسل الفواجع لا ينتهي ، ما دام الإنسان قد قتل باسم الإنسانية ، و الحقوق قد دوست باسم الدفاع عنها و صيانتها ، و الفقر اكتسح المجهول فينا و حوله إلى تماس يومي يهشم عظام ملايين ممتدة على طول خريطة عالم تتعدد أسماء دوله و تتوحد معاناة شعوبه ، لأن المطلوب الحديث عن صحوة ضمير ، لكن أين هي هاته الصحوة ؟ ، و أين هو هذا الضمير ؟ ، فقبل طنجة ، بكت أمهات ثكلى في جرادة ، أرسلنا لجانا للتحقيق و التحري وووو ، أسماء تتعدد لكن الحقيقة الراسخة هي قتل الإنسان باسم الإنسانية ..

 نبدأ مقالنا هذا بقول الشاعر :

يمشي الفقيرُ و كلُّ شيءٍ ضِدَّهُ        ***         و الناسُ تغلقُ دونهُ أبوابَها

و تراهُ مبغوضاً و ليسَ بِمُذنبٍ              ***          و يرى العداوةَ لا يرى أسبابَها

حتى الكلابَ إذا رأت ذا ثروةٍ          ***           خضعت لديهِ و حرَّكَتْ أذنابَها

و إذا رأت يوماً فقيراً عابراً           ***          نَبَحَتْ عليهِ و كَشَّرَتْ أنيابَها

ففاجعة طنجة و جرادة ، و هلم جرا من فواجع وطني و كل الأوطان ، تتمثل في القتل اليومي الذي يعيشونه تحت واقع الفقر المفروض بقوة الاستغلال البهيمي للإنسان باسم رغيف خبز حافي يبحث عنه المكلوم منذ الصباح في مواقف الموت المتحركة 

يقف العالم يتأمل الوقائع ، كما يفعل الفلاسفة ، و يقدم بيانات و نسب إحصائية و معدلات حول الدخل أو الموارد أو يقدم حديثا إنشائيا عن ضمان مصدر رزق مستدام ، و يكمم ظواهر الجوع و العري و الجهل و المرض و غياب كل شيء في نسب مؤوية ، فيصفق الحاضرون لهاته النباهة التي قل نظيرها في زمن العهر في كل شيء .

 حينما تتحدث التقارير الدولية عن كون أكثر من 780 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر الدولي ، 11٪ منهم يعيشون في فقر مدقع و يكافحون من أجل تلبية أدنى الاحتياجات الأساسية كالصحة و التعليم و المياه و الصرف الصحي ، و انتبهوا حتى الصرف الصحي ، و أن المدة ستطول حتى سنة 2030 .

 جميل جدا أن الضمير العالمي أحصى الآلام ، و لكن السؤال المركزي ماذا قدم من آمال ، اجتماعات تعقد و يصرف عليها الملايين في بذخ لا نظير له ليناقشوا جوع رجل و امرأة و طفل يتلوى بين المزابل لعله يجد ذاك الرغيف الأسود في المناجم ، أو الرغيف المطمور تحت الأرض ، و يقف الجمهور مصفقا لنباهة الأغنياء ، و لكنهم في الحقيقة يصفقون لبلادة الأغبياء .

 كان “جورج برناردشو” الكاتب الإنكليزي الساخر ، الإيرلندي المولد ، قد قال حين سأله أحدهم ، وكان قبيح الشكل ، أصلع الرأس ، كث اللحية ، ما رأيك في اقتصاد العالم ؟ فأشار بيده إلى لحيته و رأسه قائلا ” “غزارة في الإنتاج و سوء في التوزيع!!” ، و نفس النكثة صرفها الكاتب الإنجليزي الساخر في مقام “وينستون تشرشل” رئيس الوزراء الإنجليزي حينها و كان صديقا له ، حين قال له هذا الأخير ، و الذي كان ضخم الجثة “من يراك يا أخي برنار ( وكان نحيل الجسد جدا ) ، يظن أن بلادنا تعاني أزمة اقتصادية حادة ، أزمة جوع خانقة!” ، فأجابه “برناردشو” ، “و من يراك يا صاحبي ، يدرك فورا سبب الأزمة!!” .

 و قد صدق كاتبنا الساخر و أحق القول ، فالتقرير عن الثروة العالمي الذي أعده  “مصرف كريدي سويس” أشار إلى استحواذ الأمريكيين على ما يقرب من 30% من ثروة العالم بأسره ، و تسابق دول أخرى ليس للقضاء على أسباب الفقر بل للحاق بالولايات المتحدة الأمريكية في مجال الثروة ، و هنا الهوة و الفجوة ، حيث أشار التقرير إلى ازدياد معدل الثروة العالمية و بلوغها 360 تريليون دولار سنة 2019 فقط ، أي بزيادة سنوية قدرت ب 2.6% .

 الشاعر اللبناني القروي “رشيد سليم الخوري” ، و الذي يعد من أشهر شعراء المهجر ، هاجر إلى البرازيل حيث عمل فيها بائعا متجولا يحمل على ظهره صندوقا مملوءا بالسلع ، يطوف به في المناطق النائية معرضا نفسه لمشقات الحر و الصقيع .. تعرف ذات يوم على فتاة جميلة ، هي ابنة رجل ثري ، أعجبت بشعره القروي ، فدعته إلى منزلها للعشاء .. و قد ورد في مذكراته قوله ، “لما دخلت إلى دارتها الفخمة حسبتني أحلم بحكايات “ألف ليلة و ليلة” ، لكنني هبطت من فضاء أحلامي إلى الواقع الأليم لما سألني صاحب الدار ، و قد حسبني طالب زواج ، ماذا أعمل ، فأجبته ، أنظم الشعر و أعزف على العود ، تغير وجه الغني ، و قال للشاعر لعلك لم تقرأ أسطورة “الصرصور و النملة! فأجبته ، بلى قرأتها . و مع هذا فضلت الصرصور على النملة ؛ لأن الصرصور يغني و يطرب و يطير ، فيما النملة تزحف على الأرض زحفا” .

لما سمع الغني هذا الجواب نظر إلي نظرة استخفاف ، و غير مجرى الحديث .. و على المائدة طلبت إلي الآنسة أن أنشد بعض أبياتي فأنشدت :

بعـــدت همتي فعفت كنـــــوز                  _  الأرض لمــا عرفت قيمة كنزي
لا أبالي شبعت أم جعت و الفــن     _    شرابي و عــــزة النفس خبـــــزي

في اليوم التالي تلقى الشاعر القروي بطاقة اعتذار من الآنسة عليها رسم صرصور ، و معها حوالة مصرفية بمبلغ كبير ، ثمن ديوان الشاعر ، و عنوانه (الأعاصير) . فأرسل إليها الديوان مع هذا الإهداء “إلى قطرة الندى التي تتحدى ” الأعاصير ” و تؤثر الشعر على المال الوفير . و أعاد إليها الحوالة المصرفية”.

 واقع مرير يحكي عمق المشهد الإنساني الذي ليست فاجعة طنجة كما كل الفواجع في وطني و العالم ، إلا تمظهرات لأزمة عالم متوحش فقد كل مقومات وجوده الإنساني ، و لنترك الإحصاءات التي يصدرونها تتكلم ، ففي عام 2018 فقط ، كان أربعة من كل خمسة أشخاص يعيشون دون خط الفقر الدولي ، فيما 26 شخصا يحتكرون نصف أموال البشرية .

 المشكلة الأساسية هنا تتمثل في موت الإنسان و القيم الإنسانية ، لن ندخل في رحلة البحث عن “ديانا” أو “القلوب الرحيمة” ، فتلك على حسناتها لن تتمكن من حل أزمة العالم التي تبتدئ من رحلة البحث عن الماء و العمل و التعليم و التطبيب … لتصل إلى واقع مليء بالآلام في رحلة البحث هاته عن كينونة الإنسان التي قتلت باسم الإنسانية ذاتها .

 

التعليقات مغلقة.