عن منشورات الرباط نيت وبدعم من وزارة الثقافة، صدر للأستاذ “عبد السلام انويكًة” كتاب تحت عنوان “تازة خلال السنوات الحرجة للتهدئة في المغرب 1912- 1925″، وهو عمل يضاف إلى أعماله السابقة حول تازة ومنطقتها، وأشكال التعاطي الاستعماري مع تاريخها وتراثها على وجه العموم، في تحليل رصين لقضايا تاريخية أساسية تهم المنطقة من حيث مجالها وخصائصها البشرية، وقبائلها ومراحل مقاومتها للتغلغل الاستعماري، وعلاقتها بالمخزن المركزي وغيرها من القضايا المرتبطة بتاريخ وتراث تازة.
الكتاب يأتي تتويجا لمجهود جبار كانت حصيلته ستة مؤلفات، حول تازة من إنجاز أعضاء مركز “ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث”، تؤسس في سابقة نوعية لرصيد بيوغرافي علمي، ينطلق من بعض التراكمات المحترمة -على قلتها وتشتتها- ويحفر في الوثائق والمستندات علاوة على المصادر والمراجع، مغربية وأجنبية، ليقدم ويحلل مجمل القضايا المرتبطة بالمنوغرافية المحلية، متجاوزا في نفس الوقت الأفكار المتسرعة حول تاريخ وتراث تازة، التي لم يتم الإجهاز عليها إلا في السنوات الأخيرة ليصبح القدح المعلى بجانب البحث الرصين المؤسس على المصادر والمراجع والوثائق، أما غيره فيمكن إدماجه ضمن مجالات أخرى لا علاقة لها بالبحث التاريخي أو العلمي.
كان من اللازم اذن أن يتصدى الباحثون وعموم المثقفين لتصحيح ما يجب تصحيحه، ولتدارك الزمن الضائع الذي فوت على تازة عقودا من الإنتاج الهادف الرصين، ومن ثمة تأسيس مونوغرافية شاملة لتازة وإقليمها، خاصة وأن هذه المنطقة، تتميز بمحطات تاريخية هامة وقضايا مجالية في المقام الأول، من أبرزها مركزية العامل الجغرافي، والأبعاد الاستراتيجية والبحث عن الزعامات ومظاهر التمرد وتثمين قيم الاستقلال والتحرر إلى درجة الانقسامية أحيانا وغيرها من القضايا والإشكالات التي ارتبطت بتازة ومنطقتها.
جاء كتاب الأستاذ “انويكًة” ليملأ على نحو متجدد، حيزا من تاريخ المنطقة يمتد بين 1912 أي تاريخ توقيع عقد الحماية ومشاركة قبائل تازة في حصار فاس كرد فعل على توقيعه، وينتهي سنة 1925 وهي فترة مفصلية في تاريخ المغرب والمنطقة على وجه الخصوص، ذلك أن المقاومة بتازة تواصلت اعتبارا من سنة 1912 عبر العديد من المعارك وفترات من التهدئة، والجدير بالانتباه أن الثورة الريفية الباسلة دخلت مرحلة جديدة من المواجهة ضد التغلغل الاستعماري الفرنسي هذه المرة، والتي كان من ثمراتها المظفرة هجوم ربيع 1925 وتحقيق العديد من الانتصارات مع تهديد “تازة” و”وزان” والاقتراب من العاصمة “فاس”، مما أدى فيما أدى إلى سقوط “ليوطي” الذي كانت الأحداث قد تجاوزته فعلا، الشيء الذي نجم عنه توافق استعماري بغيض بين فرنسا وإسبانيا والبقية معروفة.
الكتاب إياه كان بتقديم عميق للأستاذ “سمير بوزويتة” عميد كلية الآداب “سايس فاس”، منطلقا من مدى وظيفية السؤال التاريخي La question historique، باعتبار أن قراءة الماضي هي ليست في المحصلة الأخيرة مجرد سرد رتيب لأحداث ووقائع أثرت بهذه الدرجة أو تلك على الإنسان وبيئته وعلاقاته وتفاعلاته مع الزمن ومجريات الأحداث، وليس السؤال التاريخي أرشفة ولا تدوينا أو تقييدا فقط ، بل هو أيضا أداة للعب من أجل غد أفضل، وجعل الماضي يتفاعل بقوة مع راهن ملتهب، ومن ثمة أيضا فهم ألغازه ومنعرجاته واسراره .
يطرح الأستاذ “بوزويتة” في تقديمه ذاك العديد من الأسئلة الحارقة حول معنى التاريخ وتاريخ الجرح الاستعماري بصفة خاصة، باعتباره تاريخ دم واستغلال وقهر أكثر من أي شيء آخر، فغاية التاريخ أن ندرك الماضي كيف كان؟ لا كيف ينبغي أن يكون، بمعنى آخر كيف يمكن للشعوب المستضعفة ( ومنها الشعب المغربي) أن تستوعب تاريخها؟، ومن ثمة مساءلة كل القضايا المتصلة به والتي حجبتها لنظرة الكولونيالية رغم كون هذه الأخيرة جزءا لا يتجزأ من ذلك التاريخ ذاته.
في مفصل تاريخ المقاومة ضد الاستعمار، يقرر الأستاذ “بوزويتة” بكل تجرد أنه يجب قراءته بشكل هادئ وأن نضع أحاسيسنا جانبا ونجمد معها تفاعلاتنا، واصفا البعد الكولونيالي بأنه تاريخ مجرم ونصوصه استعمارية عسكرية مجرمة في الحصيلة نفسها.
ضمن موضوع الكتاب نفسه وإشكاليته العامة، يوضح الأستاذ “بوزويتة” في تقديمه تداخل ما هو مجالي بما هو تاريخي في حالة تازة ومنطقتها، فبقدر ما احتاج الاستعمار إلى سبر أغوار المنطقة بحوضها وجبالها وتلالها وهضابها، ومجالها البشري بالطبع، بنفس المقدار احتاجت مقاومة القبائل لهذا البعد المجالي، باعتباره سلاحا فعالا في مواجهة الآلة الجهنمية الاستعمارية وأسلحتها الفتاكة، كان مجالا للضرب في مواقع العدو الضعيفة وللكر والفر، فالجغرافيا هنا هي فضاء قتل وغلبة ومقاومة، ومن هنا التبلور التدريجي لثقافة المقاومة كجزء من الهوية التاريخية والبشرية للمنطقة ككل، فكان من اللازم تقديم كل المحددات اللوجيستيكية التي استطاعت فرنسا الاستعمارية لمها مع التحضيرات ذات الطابع المخابراتي والخطط الحربية وأساليب استقطاب الأعيان والقياد وشيوخ القبائل وغيرها من أشكال الاستعداد والاستباق والتوقع لدى رجالات الاستعمار ودها.
التوصيف الزمني للكتاب يتسم بذكاء معرفي وأفق استشرافي، ذلك أن المرحلة المعنية طبعت تازة ومنطقتها بميسمها الخاص، سواء أثناء مقاومة القبائل خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، وأثناء وبعيد حرب الريف، ويتعرض الكتاب هنا لبعض أساليب التغلغل الاستعماري كالجاسوسية والآليات الاستخباراتية، وتثمين الزعامات المحلية الموالية، أو استغلال الطبابة الاستعمارية، ثم إشراك المخزن والأهالي وخاصة شيوخ وأعيان القبائل في عمليات التوغل والتهدئة، مثلما حدث بالنسبة لمناطق أخرى من البلاد، ومن حيث بنيات التجهيز العسكري، فقد جرى الاستعداد على قدم وساق في هذا المجال، حيث روعيت مواقع ونقاط المياه وطبيعة المحطات المتحكمة في مجالها ومحيطها، وكان حصيلة عمل الحماية الاستعمارية في هذا الميدان بالذات بناء سلسلة مواقع استراتيجية وحصينة في محاولة لاحتواء القبائل الثائرة المعتصمة بالجبال ومن أبرز تلك المعسكرات والمواقع : موقع الصفصافات وموقع “تيسة” و”كدية لبيض” و”الطواهر”، علاوة على مواقع بقمة “تومزيت” وجبل “بوكربة” وعلى طول الخط السككي المقام في نفس فترة التهدئة الأولى وذلك لتأمين التنقل والدعم اللوجيستي، والحفاظ على مكتسبات القبائل التي أذعنت ودخلت في الأمان وتحت حضن السلطان.
ويتعرض الكتاب للتصور الذي تبلور حول منطقة تازة في المخطط الاستراتيجي الاستعماري، من خلال إفادة ليوطي شخصيا ” تازة أولا “Taza d’abord لأن السيطرة على ممر تازة تعني ربط الامبراطورية الاستعمارية في شمال إفريقيا ببعضها البعض من تونس إلى الرباط فمراكش، بل حتى تغيير العاصمة من فاس إلى الرباط تم في هذا الإطار أي تحت هاجس السيطرة على ممر تازة الرباط بين شرق المغرب وغربه، وضمن هذا السياق أيضا تم بناء وتجهيز العديد من مراكز المراقبة في المدينة وعلى مستوى الأحواز، وكذا مد الخط السككي ( من فئة 0,60) الشيء الذي يعني مكاسب استراتيجية واقتصادية ومعنوية هامة بالنسبة لفرنسا الاستعمارية .
في إطار استراتيجية احتلال تازة وقع الجنرال “ليوطي” وقيادته في حيرة من أمرهم، حيث تراوح الاتجاه العام بين ما كان يسمى ب”بقعة الزيت أو التوسع الخطي”، ليستقر الأمر عند هذا الأخير، أي التوسع الأفقي الخطي باعتباره الوسيلة الأمثل بالنسبة لممر تازة بكل تعقيداته التضاريسية والمجالية والبشرية أيضا، وبسبب وعورة كثير من مناطق تازة ونواحيها أعادت القيادة العسكرية الفرنسية النظر في بعض مخططاتها، حيث تم اللجوء إلى حصار القبائل في أماكن تواجدها، بدل الهجوم المباشر لما يكلفه ذلك من خسائر مادية وبشرية، وفي هذا السياق أحصى الكتاب إياه 12 زيارة قام بها ليوطي لتازة وأحوازها، فيما بين 16 ماي 1914 و06 نونبر 1921، تراوحت أهدافها بين الوقوف على العمليات العسكرية ضد القبائل وتتبع الأنشطة الألمانية بالمنطقة وزيارة بعض المراكز كجبل “بومهيريس” و”بني وجان” و”بوكربة”.
ومن جهة أخرى، يقدم كتاب “تازة خلال السنوات الحرجة للتهدئة بالمغرب” بعض الوسائل التقنية التي استعملها الجيش الاستعماري الفرنسي ومعه “الكوم” المغاربة و”السبايس” الجزائريين والمجندين السنغاليين، ومن ذلك وسائل نقل العتاد والمؤونة كالنقل السككي ثم الطرقي وخاصة عن طريق الدواب التي تصلح لمثل تضاريس منطقة تازة المتعرجة والصعبة .
استعمال الطائرات والمدفعية كان أيضا جزءا أساسيا من الاستراتيجية العملية للقوات الفرنسية الغازية، وذلك لتسهيل الزحف على الأراضي والتمهيد لاحتلالها دون خسائر كبيرة، وهو ما تم بدءا من ماي 1914، وخاصة خلال الفترات الأخيرة من حرب الريف التحررية وفي جبهة تازة بالذات، كما تم استعمال المنطاد لأهداف استكشافية استطلاعية خاصة في منطقة “البرانس”، من أجل تجميع المعلومات حول مقدرات المقاومة وقواها.
من ناحية ثانية، تتضح أهمية الأسواق بالنسبة للقوى الاستعمارية الفرنسية في كونها مكانا مثاليا لتجمع الناس، وكذا باعتبارها مجالا للتجسس وجمع المعلومات الضرورية حول القبائل، ولذا استبدلت الحماية أمكنة بعض الأسواق القروية خاصة، وخلقت في المقابل أسواقا أخرى جديدة فيما تم الاستغناء عن نوع آخر من الأسواق لم يكن يخدم الاستراتيجية الاستعمارية، والتي انصبت في مواجهة تلك القبائل التي أبانت عن مستوى قتالي وعن رد فعل مقاوم عنيف، انصبت على اجتثاث المحاصيل الزراعية وإحراق أقوات القبائل غير الخاضعة وإتلاف المزروعات وقطعان الماشية، في محاولات متكررة لتجويعها ودفعها إلى الاستسلام، مما يقترب فعلا من جرائم استعمارية بمعنى الكلمة .
في المفصل الثاني من الكتاب والذي يشمل رد فعل القبائل بالمنطقة إزاء التوغل الاستعماري وما ميزه من مقاومة مستميتة لكل تلك القبائل، قدم الكتاب إياه جردا شاملا لتلك المقاومة وزعاماتها وأهم مواقعها، وهي المقاومة التي طالت سنين عددا حين كان دهاقنة الاستعمار وعلى رأسهم الجنرال “ليوطي” يتوقعون أن تستغرق بضعة أشهر في أسوإ الاحتمالات، فإذا بتلك المقاومة تتواصل بشكل مستمر ومتقطع أحيانا من 1912 إلى حدود 1926 أي بعيد استسلام زعيم الريف الأمير “عبد الكريم الخطابي” حيث استمرت لبعض الوقت وإلى حدود بداية 1927 بمنطقة “بني وراين”.
فيما اعتمدت الجيوش الاستعمارية على مختلف الأسلحة الحديثة وتكونت في أغلباها من “السبايس” الجزائريين وقوات إفريقيا (السنغال) مع جنود فرنسيين وقيادة فرنسية أيضا، اعتمدت مقاومة قبائل المنطقة أمام الاختلال المهول في موازين القوى على التضاريس المتشعبة والوعرة، وخاصة سفوح وقمم الجبال، وأوضح برهان على ذلك مشهد سحب كتيبتين فرنسيتين خلال شهر شتنبر 1925 من سفح جبل “نهير” بمنطقة البرانس وذلك تحت ثقل الهجمات المضادة العنيفة لتلك القبيلة. وبما أن الحق ما شهدت به الأعداء فقد ورد في ورقات من جندي مقاتل Le carnet d’un Combattant “أيُّ رجالٍ هؤلاء الجبليون (سكان الجبل) لا يتراجعون أمام مدفع…. هؤلاء مزعجون ” Quels hommes que ces montagnards ,ne reculant pas ni devant canon ,met râleuse “يكفي أن نذكر بعض المعارك التي شهدتها المنطقة بدءا من 1914 كمعركة جعونة ومعركة قلعة بني بوقيطون، اشتباكات واد لحضر، معركة قصبة بين ورياغل ( 21 يناير 1915) معركة الطواهر – معركة بولجراف –معركة اهل تلوان – معركة جامع الخميس – معركة عين بوقلال وغيرها من المعارك التي لم يقدر للمؤرخين المغاربة تتبعها أو تسجيلها للأسف الشديد باعتبار أنها وردت غالبا في الأرشيف الاستعماري أو الأجنبي غالبا، ومن ثمة طغت النظرة الاستعمارية المعروفة”.
كل تلك المعارك والاشتباكات والمناوشات كلفت القبائل آلاف الشهداء والمعاقين مقابل مئات القتلى والجرحى في صفوف القوات الاستعمارية، هذا إلى تخريب الدواوير والمداشر والإجهاز على محاصيل القبائل ومراعيها وقطعان أغنامها كرد فعل على المقاومة الشرسة التي ووجهت بها القوات الاستعمارية، وفي محاولات لإجبار تلك القبائل على الاستسلام، كان معسكر “جيراردو” نفسه بتازة هدفا لهجوم غياثة بشكل عنيف في يوليوز 1914، وإثر عمليات مقاومة مماثلة اضطرت القوات الفرنسية إلى ضرب موقع بيت غلام بتازة مما أوقع العديد من الأبرياء ضحايا قتلى وجرحى وذلك في غشت من نفس السنة، مع تهديم الدور والمنشآت بنفس الحي من تازة وذلك كرسالة موجهة لنفس القبائل المقاومة التي كانت تهدد خط مسون تازة، ومن الحقائق المثيرة التي يقدمها الكتاب طريقة أداء المقاومين الأشاوس، فقد اعتمدت المقاومة بتازة على الشجاعة الميدانية والمعرفة الدقيقة بالمسالك والطرقات، هذا وتميز الفرسان المغاربة بقدرتهم الفائقة على التحرك والمناورة وإتقان الرمي وهم راكبون، بخلاف فرسان القوات الفرنسية الذين كانوا يضطرون للنزول إلى الأرض بهدف تصويب بنادقهم، وأثناء المعارك كثيرا ما كان المقاومون يبحثون عن الالتحام بالخصم عندما تكون فرقه غير محمية بالمدفعية والرشاشات، لأن هذا النوع من القتال هو الذي يتيح المبادرة للمقاومين بما تميزوا به من شجاعة وإقدام قد تعوض أحيانا الفارق في الأسلحة والمعدات .
أحصى الأستاذ “انويكًة” ما مجموعه 56 معركة التحم خلالها المقاومون بالقوات الفرنسية وقوات اللفيف الأجنبي وقوات السبايس وجيش إفريقيا، اعتبارا من احتلال تازة في ماي 1914 وحتى بداية شتنبر 1925، ومن زعامات المقاومة بتازة والأحواز الشريف الحجامي وأحمد بلمامون الشنجيطي وعبد المالك وسيدي رحو، وقد اختلف تعاطي هذه الزعامات مع أساليب المقاومة ووسائلها، وتباينت شخصيات زعمائها من العنصر الصوفي / الفقهي ك”الشنجيطي”، إلى البعد السياسي والديني كعبد المالك ثم مركزية الجهاد والنسب الشريف كما هو الحال مع الفقيه “الحجامي”.
ومع كل هذا ورغم شجاعة المقاومين وقناعتهم بأبسط سبل العيش، وأخف سلاح لديهم، فمن أسباب هزيمة المقاومة المسلحة خلال هذه الفترة افتقار القبائل لقيادات موحدة تستطيع أن تلم شتاتها وتوحد جهودها في مواجهة التغلغل الاستعماري الغاشم . وأخيرا، فقد حلى الكاتب مؤلفه بمجموعة صور وداول ومبيانات دالة حول الأحداث والوقائع والمحطات التي تناولها هذا الكتاب القيم.
رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث
التعليقات مغلقة.