أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

تازة: في الحاجة الى تجاوز المنطق الاحتفالي البهرجي في مهرجان تقطير الزهر

عبد الإله بسكًمار

لا يمكن لأي مواطن تازي(ة)، إلا أن يثمن كل المبادرات الهادفة إلى إنعاش المدينة العتيقة، ورد الاعتبار لها ولو رمزيا، ومن تلك المبادرات التي شجعناها وعززنا حضورها “موسم تقطير الزهر”، خاصة في حلقاته الأولى بدءا من سنة 2015، إيمانا منا بأن هذا الموسم يخدم تازة من عدة جوانب: اقتصادية واجتماعية وثقافية بالدرجة الأولى، والمدخل الأساس لذاك هو المنتوج ذاته أي الزهر الصغير الأبيض المجتنى من أشجار “النارنج”.

 

وكنا نأمل أن يتطور هذا المهرجان نحو أفق أوسع وأغنى من مجرد حفلات للسماع أو الطرب الأندلسي، مع كل الاحترام لهذين الفنين الرفيعين.

 

وظللنا نأمل من هذا المهرجان أو الموسم أن يعطي دفعة قوية لإشعاع مدينة تازة وطنيا على الأقل، وبشكل يمكن أن ينعش القطاعات الحيوية من صناعة تقليدية وسياحة ثقافية وطبيعية وخدمات متجددة وأصيلة، لكن مع مرور الدورات في روتينيتها المعروفة وفعالياتها المكرورة وعبر السنوات، لم يستطع هذا المهرجان أن يحقق الأهداف المأمولة منه بالنسبة لتازة وأفق تنميتها، لا بل ضاقت تلك الأهداف شيئا فشيئا حتى أصبحت مجرد تبادل خدمات معلومة بين هذا الطرف أو ذاك، أولا تتعدى الحصول على منح ضخمة من المال العام سرعان ما يتبدد أثرها، وقد لا يتجاوز الأمر مصالح ضيقة ومحدودة بل وفردية محضة، تتحقق بعيدا عن واقع تازة ومشاكلها الملحة وما تنتظره المدينة من نهوض وإنعاش، وتنتهي الآثار المباشرة للمهرجان أو الموسم بمجرد انصرام يومه الأخير، دون أي رجع صدى أو مردود عملي وواقعي أو بصمة حقيقية يمكن أن تنعكس إيجابا على المدينة وساكنتها.

 

 وكان من المأمول أيضا خلق فرص لتشجيع الرفع من الإنتاج المحلي المتعلق بهذه المادة الحيوية التي تستعمل في المناسبات العائلية والأعياد الوطنية والدينية وتعطر الحلويات المختلفة وتستغل في الطبخ وتعطي مادة الشاي نكهة خاصة متميزة، كما هي ضرورية لبعض الأدوية ويهتم بها بائعو العطور والعشابون جميعا، ونقصد بذلك لم شمل المنتجين على قلتهم في إطار تعاونيات تشاركية وتثمين زراعة “النارنج” وتوسيع مساحاتها داخل وفي محيط تازة، وهذا بعد أساسي، بما يعنيه ذلك من تنشيط للاقتصاد المحلي وخلق فرص للشغل، لكن كل هذا وضع على الرف وبقي نسيا منسيا، مما أفرغ التظاهرة ذاتها من محتواها الاندماجي والاقتصادي ثم الاجتماعي، يشار إلى أن التعاونية الوحيدة التي تأسست في هذا المجال وهي المسماة “تعاونية خناثة لتثمين وإنتاج وتسويق المنتجات العطرية والطبية” وتشمل ماء الزهر والورد كان عطاؤها باهتا وسرعان ما خبا صيتها داخل تازة نفسها .

 

 ولعلم الجميع فزراعة “النارنج” قديمة بتازة والناحية، ويمكن الافتراض بأنها تعود إلى المهاجرين الأندلسيين أو الموريسكيين Les Morisques بدءا من العصر المريني، أما تقطير الزهر فهو أيضا عريق بتازة، كما بالنسبة لبعض المدن المغربية العتيقة كفاس والرباط ومكناس وتطوان وطنجة وسلا ومراكش ووزان ومولاي ادريس زرهون والقصر الكبير والعرائش، وظل يتميز بأوان معلومة  تلخصها عمارة ” القطارة ” المتألفة من ثلاث طبقات، فهناك البرمة التحتية المحتضنة للماء الساخن ثم “كسكاس الزهر” وأخيرا برمة الماء المتحول أو الرأس الذي يشهد استبدال الماء في كل مرة تجنبا لاحتراق الزهر، ومن رأس القطارة هذا ينساب “روح الزهر” عبر قناة تصب في أواني الزجاج لحفظه، وكل ذلك يُصحب عادة ب”الزهيد” والإنشاد والأمداح النبوية وتستغرق العملية حيزا من الزمن حسب حجم الزهر وكميته، إذ ترتفع مدة تقطيره كلما زاد حجمه.

 

ونكهة الزهر تكون قوية جيدة في القوارير الأولى، ولكن مع مرور العملية تتراجع تلك القوة، ويقتصر على ماء الزهر في هذه الحالة بوضعه في الحلويات والسلاطات وعادة ما تترافق العملية مع طقوس ومسلكيات تقليدية مستفتِحة أو مصاحبة للتقطير، كالقيام ركعتين قبل مباشرة العملية، واقتصارها على عنصر الإناث دون الذكور، إذ تقوم بعملية التقطير امرأتان عادة، تمتلكان الخبرة والتجربة اللازمتين، قد تكونان بين أفراد الأسرة كالأمهات والجدات أو من خارجها بين”المعلمات” المعروفات بالمدينة، مع تنظيف الأيدي والمنتوج الخام جيدا ودعوة الزوج لحضور بداية التقطير، مع إطلاق البخور وعطر الند للاعتقاد بأن ذلك عاملا مطهرا روحيا عبر إضفاء قدسية ما على العملية، ويعزز كل هذا إسدال ستار أو حجاب من الثوب للحفاظ على هيبتها وبالطبع.

 

ولعل جني الزهر يتم خلال فصل الربيع أي منذ أواسط شهر مارس، وقد يمتد إلى أواسط ماي من كل سنة، ونحن نقصد السنوات الخصبة الممطرة لا المواسم العجاف.

 

ويمكن تحديد فضاءات البيع بين “باب الزيتونة” و”قبة السوق” بقلب تازة العتيقة، وقد تمتد بعض نقاط البيع إلى المدينة الحديثة/تازة السفلى.

 

 وبدل التنسيق مع الجهات المعنية خاصة مديرية الفلاحة من أجل توسيع غراسة شجرة “النارنج”، وإحداث وحدات لإنتاج وتثمين وتقطير الزهر، بدل كل ذلك، سجل تراجع مهول في هذا الإنتاج، تبعا لعدة عوامل سلبية أبرزها: الجفاف وشح المياه وبطء المردودية انتظارا لشهر مارس، مع توخي الربح السريع والمحترم من طرف المنتجين، واقتصار موسم تقطير الزهر في مجمله على الطابع الاحتفالي، ثم تواري الأسر التازية التي عرفت برعاية هذه الشجرة في الدور العتيقة والرياضات وكذا أنشطة التقطير داخل المنازل، بحيث عانت تازة العتيقة من نزيف حقيقي في هذا المجال، خلال العقود الأخيرة، وأصبحت عدد من تلك الدور عبارة عن أطلال وخرب مأسوف عليها، وذبلت معها أو انقرضت كل أشجار النارنج، ويشار إلى أن أكثر العائلات التازية انتقلت إما إلى تازة الجديدة أو اتجهت نحو مدن وحواضر أخرى، تبعا لظروفها المعيشية بشكل عام، أو حتى غادرت البلد إلى الخارج، فساهم النزيف إياه في تراجع شجر “النارنج”، بل وانقراض تقاليد تقطير الزهر، كما انقرضت تقاليد أخرى عند الأسر التازية كتقطير الورد والذي يختلف استغلاله عن ماء الزهر وقد ذكرنا بعض استعمالاته، أما ماء الورد فيستغل في تخفيض حرارة الجسم عند الإصابة بنزلة برد أو بزكام حاد مصحوب بارتفاع درجة الحرارة، أو كمطهر للعيون، وأحيانا يستعمل للتجميل وبالمناسبة، فمن العادات التي انقرضت أو شارفت على الانقراض عند الأسر التازية بفعل التحولات الاقتصادية والاجتماعية: ترطيب الغاسول وتجفيف الحبوب وتنقية القطاني وفتل “المحمصة” والطعام/الكسكس، وطحن البن في المنازل وتهييء “القديد” و”الحميس” بل وطهي الخبز في الفرارين، ويمكن تفسير هذا النزيف أيضا بالهجرة القروية نحو تازة والتحولات القيمية التي صاحبتها، بما في ذلك ظواهر ترييف المدينة ككل، مما ساهم في الإجهاز الشامل أو الجزئي على تلك التقاليد العريقة بكل أسف ولوعة، حتى إذا سألنا أحد ساكنة تازة العليا حاليا عن تقطير الزهر فلا يستطيع جوابا، علاوة على اختفاء أدوات وآليات ووسائل تقطير الزهر وعلى رأسها القطَّارات من السوق كنتيجة حتمية للتراجع الرهيب المذكور  .

 

 كان لعامل تغيير الزراعات والتحولات المناخية أثرا كبيرا على تراجع إنتاج الزهر، وللعلم فقد كانت مساحات شجرة “النارنج” تمتد داخل وحول النطاق الحضري لتازة، عبر المنطقة السياحية سابقا الممتدة من “المسبح البلدي” وحتى حي “فريواطو” وفضاء “جيراردو”و”مجوسة” و”رأس الواد” و”الشقة” و”جنان عين السلطان”و”بوحجار”و”حي المجازر” (abattoir).

 

كان هذا المجال يخترق المدينة الجديدة والعتيقة على حد سواء، فضلا عن نموه وترعرعه بالرياضات والبيوت التقليدي؛ وظل التازيون لسنوات طويلة يتمتعون بطيب الزهر في المناسبات الوطنية والدينية والعائلية، وخلال ليالي الحضرة التي يتخللها صوت الإنشاد والسماع بقيادة “مولاي الصديق العيوني”، رحمه الله، وأماسي “النزاهات” أو “النزايه” التي كانت تنظمها الأسر وجموع الأصدقاء في الضواحي القريبة ك”مجوسة”، “جنان البردعي”، “كًلدمان”، “الشقة”، غابة “بوكًربة” ثم “رأس الماء” و”باب بودير”.

 

 سجل الملاحظون وعموم ساكنة تازة أن الحلقات الأخيرة من مهرجان تقطير الزهر، اتسمت بتراجعات ملموسة كانت متساوقة مع تراجع الإنتاج والتقطير معا، وزادت أزمة كوفيد من هذا التراجع، إذ لم يكلف المنظمون أنفسهم الاضطلاع بتقويم موضوعي يسجل الإيجابيات (إن وجدت) ويقف على مكامن الخلل، التي حولت هذا المهرجان تدريجيا إلى محطة ورقية تقوم على وثائق ووصولات ملتبسة وتطغى عليها مظاهر الاحتفالية، إن لم نقل البهرجة التي لم تستفد منها المدينة شيئا يذكر؛ بحيث أضحى في الأخير إسما بدون مسمى، وكان من الممكن تطوير المهرجان إياه خدمة للمدينة العتيقة أولا وقبل كل شيء وليس لحساب جهات بعينها.

 

فضاءات المهرجان هي الأخرى مطروح على بعضها ألف علامات استفهام، كما هو الشأن بالنسبة للمدرسة الحسنية المرينية بحي المشور، والتي تعد من أبرز مآثر تازة التاريخية ومن المفترض أن تتبع لوزارة الثقافة كما هو شأن باقي المدارس المشابهة بكل من فاس ومكناس وسلا ومراكش.

 

نعم يمكن فتح تلك المدرسة للأنشطة الشبابية والجمعوية والثقافية لكن بترخيص من الجهة الوصية، حسب ما ينص عليه القانون، ووجب أن تفتح أمام جميع الفعاليات سواء بتازة أو خارجها، وفي انتظار إعادة الأمور إلى نصابها، يعتبر الوضع الحالي لهذه المدرسة غير مشروع بالباث والمطلق، أما مجالات موسم تقطير الزهر فمتاحة عمليا وقانونيا بالقاعات العمومية وفضاءات العروض وبعض الدور العتيقة.

 

 إن ضرورة تجاوز المنطق الاحتفالي والبهرجي في التعاطي مع مهرجان الزهر بتازة، باعتباره أحد رموز الهوية المحلية والترابية، ومن تجليات الرأسمال المادي والرمزي لتازة، يستوجب بلورة تصور شامل للأهداف المتوخاة من مثل هكذا تظاهرات، سواء منها المتوسطة أو البعيدة المدى وضرورة ربطها بتنمية وإنعاش المدينة العتيقة، التي تعيش اختناقا وجمودا لم يسبق لهما مثيل، بفعل توالي التجارب الجماعية الفاشلة وغياب برامج حقيقية لإنعاش القطاعات الاقتصادية والاجتماعية بها.

 

* رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث     

التعليقات مغلقة.