ترامب والكابوس الأمريكي
عندما فاز جو بايدن بالرئاسة في عام 2020، وصف دونالد ترامب بأنه “لحظة شاذة” في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. لكن الانتصار الساحق لترامب هذا الأسبوع أظهر أنه أبعد ما يكون عن ذلك.
كان حجم هذا الانتصار تأكيدًا مؤلمًا على مجتمع يمر بمراحل متقدمة من التدهور. ومن قلب هذا التدهور وإخفاقات الحزب الديمقراطي، ينمو نفوذ ترامب واليمين المتطرف، ويدفعان البلاد نحو مزيد من التوجه اليميني.
أدت أكثر من أربعين عامًا من السياسات النيوليبرالية إلى بناء مجتمع مضطرب وخائف وعنيف. تقدم الولايات المتحدة الأمريكية نفسها كقائدة “العالم الحر”، لكنها في الواقع تتصدر العالم في معدلات الانتحار وسجن الأفراد والعنف المسلح ووفيات المخدرات.
لقد ضغطت سياسات السوق الحرة، التي دُفعت من قِبل الجمهوريين والديمقراطيين، على أجور الطبقة العاملة، ودمّرت الوظائف اللائقة وأدّت إلى تصاعد الفجوة الطبقية.
الولايات المتحدة الآن واحدة من أكثر المجتمعات غير المتكافئة في العالم. حوالي 20% من الثروة تتدفق إلى أعلى 1% من السكان، في حين تملك نسبة 0.1% من السكان حصة من الثروة تكاد تساوي ما يملكه 90% من السكان في الأسفل.
وراء هذه الإحصائيات الاقتصادية، هناك معاناة بشرية وألم حقيقي. في عام 2022، انتحر 49,500 شخص، مسجلين رقمًا قياسيًا، وبلغ معدل الانتحار 14.3 لكل 100,000 شخص. كان هذا أعلى معدل منذ عام 1941، إلا أنه ارتفع مرة أخرى في العام التالي ليصل إلى 14.7.
أما معدلات الإدمان، فهي تسير في مسار مشابه. معدل الوفيات بسبب تعاطي المخدرات في الولايات المتحدة هو الأعلى في العالم، حيث يبلغ 18.75 لكل 100,000 شخص، مقارنةً بالمتوسط العالمي البالغ 2.08 لكل 100,000. وباء إدمان الأفيونيات، الذي غذّته شركات الأدوية الكبرى، حصد أرواح أكثر من 100,300 أمريكي في السنة التي انتهت في أبريل 2021.
جونستاون، بنسلفانيا، هي مدينة تعرف جيدًا أثر وفيات المخدرات. لعقود، كانت مصانع شركة “بيثليهم” للصلب تهيمن على أفق المدينة، وكانت رمزًا لقوة الرأسمالية الأمريكية في يوم من الأيام.
لكن تلك المصانع أُغلِقت في عام 1992، ولم يبقَ اليوم سوى القليل من آلاف وظائف الصلب التي كانت توفرها. أصبحت الآن محلات بيع السجائر الإلكترونية وسلاسل مطاعم الوجبات السريعة والمتاجر المغلقة هي التي تسيطر على شارع “ماين ستريت”.
جونستاون هي واحدة من العديد من المدن والبلدات التي ترمز إلى تراجع الولايات المتحدة، وتشكّل قلب “بلاد ترامب”. لقد نجح ترامب في استغلال الغضب المتراكم والاستياء من آثار النيوليبرالية.
قال ترامب للناس في جونستاون: “السياسيون المحترفون مثل جو بايدن كذبوا عليكم. أساءوا معاملتكم. سحقكم وسحق أحلامكم، وصدّر وظائفكم إلى الصين وأماكن بعيدة حول العالم.”
لكن ترامب، الملياردير المدعوم من شريحة واسعة من قطاع الأعمال الكبرى، لا يقدم شيئًا للطبقات العاملة، سواء كانوا من البيض أو السود أو اللاتينيين. إذن، لماذا استفاد اليمين المتطرف، وليس اليسار، من أزمة الوسط النيوليبرالي؟
أولًا، يستمد ترامب قوته من الأزمة التي تسبب فيها الوسط النيوليبرالي ويعتمد على أفكاره. فقد برر السياسيون تلك السياسات النيوليبرالية بإيديولوجيا ليبرالية تدّعي أن التنافس في السوق والفردانية الشرسة هما أساس ازدهار البشرية.
في كتابه” شياطين النيوليبرالية”، يجادل الكاتب الأمريكي آدم كوتسكو بأن النيوليبرالية “وضعتنا أمام خيارات مفروضة تهدف إلى تحويل اللوم عن الأزمات الاجتماعية إلى ما يبدو وكأنه قرارات خاطئة من الأفراد”. وبهذا، تصبح الاستجابة للأزمة الاجتماعية العميقة في الولايات المتحدة حلولًا أكثر يمينية، بدلًا من البحث عن رد جماعي من الطبقة العاملة.
إن ترويج السياسيين للعنصرية لتحويل اللوم عن فشلهم يوفر أرضًا خصبة لأمثال ترامب. على سبيل المثال، أشادت كامالا هاريس بإنجازات الديمقراطيين بقولها إنهم حققوا “معدلات أقل من المهاجرين غير الموثقين والهجرة غير القانونية” مقارنة بفترة ترامب. وانتقدت ترامب لأنه بنى “حوالي 2 بالمئة فقط” من الجدار الحدودي بين الولايات المتحدة والمكسيك.
ثانيًا، يلعب ترامب واليمين المتطرف على الحنين إلى “الحلم الأمريكي”، وهي الحقبة المرتبطة بالعقود التي تلت الحرب العالمية الثانية. كانت تلك حقبة التوظيف الكامل وارتفاع مستويات المعيشة والازدهار الاقتصادي؛ ذروة قوة الولايات المتحدة في العالم. لكنها كانت في الوقت نفسه كابوسًا بالنسبة للسود والنساء وأفراد مجتمع الميم.
ففي خمسينيات القرن الماضي، كانت قوانين جيم كرو العنصرية سارية في الولايات الجنوبية، وكان هناك التمييز العنصري وحوادث الإعدام دون محاكمة. كما كانت تلك الحقبة تمجد “الأسرة النواة” وتفرض أدوارًا صارمة للجنسين، خاصة بالنسبة للنساء. وقدمت إيديولوجيا الحلم الأمريكي الازدهار على أنه “حق مكتسب” للأمريكيين البيض.
لقد حقق العديد من أفراد الطبقة العاملة مستويات معيشة أفضل في الخمسينيات بفضل النضالات التي خاضوها. فقد أجبرت احتجاجات العمال الطبقة الحاكمة الأمريكية على تقديم تنازلات، مثل إضراب عمال جنرال موتورز في فلينت بولاية ميشيغان عامي 1936-1937.
وكان الخوف من ثورة أكبر قد دفع الحكومة الأمريكية وبعض الشركات الكبرى إلى التوصل لتسويات مع قادة النقابات العمالية. وفي الوقت نفسه، تم سحق اليسار لجيل كامل خلال حملات “مكافحة الشيوعية” في الأربعينيات والخمسينيات. وتجذرت فكرة الازدهار كـ”حق مكتسب” في الوعي الشعبي.
خطاب ترامب سيء السمعة في ميدان ماديسون سكوير غاردن في نيويورك هذا الشهر كان غارقًا في العنصرية والتمييز الجنسي، وكشف عن استراتيجية اليمين المتطرف. استفاد من الأزمة الاجتماعية التي يعاني منها الملايين، وهاجم هاريس بقوله إنها “حطمت الطبقة المتوسطة لدينا” في “أقل من أربع سنوات”. واستغل هذا الألم العميق وحوّله إلى كراهية تجاه المهاجرين.
قال: “سأحمي عمالنا. سأحمي وظائفنا.” ثم تابع: “سأحمي حدودنا. سأحمي أسرنا العظيمة.”
وأضاف: “سأحمي حق الولادة لأبنائنا في العيش في أغنى وأقوى دولة على وجه الأرض”. كانت أفكار “الحلم الأمريكي” عن “حق الولادة” متشابكة مع العنصرية العميقة في المجتمع الأمريكي، والتي استُخدمت كأداة لتقسيم العمال والفقراء.
في عام 1965، قال زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ إن “الأرستقراطية الجنوبية أعطت الرجل الأبيض الفقير قوانين جيم كرو”. وقال: “عندما كان بطنه المجعد يصرخ من الجوع الذي لم تستطع جيوبه الفارغة أن تسدّه، كان يأكل من قوانين جيم كرو، الطائر يخبره أنه مهما كانت حالته سيئة، فهو على الأقل رجل أبيض، أفضل من الرجل الأسود.”
هذا أيضًا جزء من استراتيجية ترامب. فقد قام بتوجيه غضب الكثير من الناس من خلال تأجيج العنصرية، واستخدام المهاجرين ككبش فداء، وتحويل الأنظار نحو “النخب الليبرالية”. وبهذا يُبعد الغضب والأنظار عن النخبة الحقيقية: المليارديرات وأرباب العمل والمصرفيين، الذي يُعد ترامب جزءًا منها.
قبل أربع سنوات، وعد في تجمع له في جونز تاون قائلًا: “سنأتي بأعداد هائلة من المصانع.” كان ذلك وعدًا لم يفِ به، لكنه لم يفقد الدعم.
يعد ترامب بإعادة قيمة الناس ومكانتهم من خلال استهداف المجرمين وتجار المخدرات والمهاجرين و”اليسار المستيقظ”.
هذه الأزمة في الولايات المتحدة ليس من الضروري أن تكون لصالح اليمين. فقد هزّت حركات اجتماعية قوية المجتمع الأمريكي، مثل التضامن مع فلسطين في الجامعات وحركة “حياة السود مهمة” والمعارضة الجماهيرية خلال فترة ترامب الأولى كرئيس.
نظر ملايين الناس إلى بيرني ساندرز، وألكساندريا أوكاسيو-كورتيز (AOC)، و”الفرقة” الذين يصفون أنفسهم بأنهم اشتراكيون ديمقراطيون.
وعد هؤلاء بـ”صفقة خضراء جديدة” تستثمر مليارات الدولارات في وظائف لائقة وذات أجر جيد للطبقة العاملة، لكن هذا الوعد اختُزل ليصبح برنامج بايدن “إعادة البناء بشكل أفضل”، الذي قيد تلك الوعود.
ثم أصبحت بايدنوميكس في الواقع برنامجًا للتسليح مع عدد قليل جدًا من الوظائف الخضراء. ومع ذلك، دافع ساندرز وأوكاسيو-كورتيز وغيرهم عن بايدن وسياسة العمل من خلال الحزب الديمقراطي. واصطفوا خلف إدارة عمّقت الأزمة ولم تقدم الكثير للعمال.
في الانتخابات، كان شعار ترامب “اجعلوا أمريكا عظيمة مجددًا”، بينما زعم الديمقراطيون أن “أمريكا” عظيمة بالفعل. رأى الناس زيف هذا الادعاء، وانخفضت نسبة التصويت للديمقراطيين مقارنة بعام 2020.
بدلًا من ذلك، ولمواجهة أجندة ترامب العنصرية، هناك حاجة إلى يسار لا يصطف خلف الديمقراطيين، بل يعتمد على النضال في الشوارع وأماكن العمل.
وقد رأينا لمحة من هذا في إضرابات عمال بوينغ وعمال الموانئ مؤخرًا، وهناك معارك طبقية كبيرة قادمة مع أجندة ترامب. وإلى جانب محاربة اليمين المتطرف والعنصرية، يجب على اليسار تقديم بديل حقيقي للرأسمالية.
في الثلاثينيات، انتقد الشاعر الأمريكي الأسود لانغستون هيوز أولئك الذين يحنّون إلى ماضٍ أمريكي متخيّل. وقال: “أمريكا لم تكن يومًا أمريكا بالنسبة لي.”
وقال إن المهمة الحقيقية هي “إعادة خلق أمريكا”، أي بناء مجتمع جديد خالٍ من الاستغلال والقمع. وأضاف أنه “من بين الحطام والدمار والنهب والفساد والخداع والأكاذيب”، يجب أن “ينقذ” الناس هذا البلد وثرواته الهائلة.
ولا يمكننا تحقيق ذلك إلا من خلال النضال ضد اليمين المتطرف، والنظام الذي يفرزه.
المقال نشر في صحيفة العامل الاشتراكي البريطانية، ترجمه يونس الغفاري.
التعليقات مغلقة.