أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

جامع حسان برباط الفـتح .. “تحفة” المعمار الموحدي (1/3)

حقق الموحدون نجاحا سياسيا و عسكريا، أفرز نجاحات أخرى اجتماعية واقتصادية وحضارية، أدخلت إمبراطورية الموحدين  التاريخ الحضاري من بابه الواسع (1) ، إذ وحدوا المغرب الكبير من برقة وطرابلس إلى المحيط الأطلنتي، وأعادوا سيطرة الإسلام إلى الأندلس وجزر إسبانيا، فاستقرت الأوضــــاع بممالك الغرب الإسلامي بالمغرب العربي والأندلس طولا وعرضا، بفضل جيش موحــــدي محكم التنظيم وأساطيل بحرية متطورة فرضت على مياه البحر الأبيض المتوسط وتجارته سيطرة كاملة، وفي عصر الموحدين انصهرت كل مكونات المجتمع المغربي من عرب وبربر، وانتشرت اللغة العربية انتشارا واسعا بفضل قبائل بني هلال وسليم الذين استقدمهما المنصور الموحدي من إفريقية، وقــد ساهم  استقرار السياسة وتجانس المجتمع في ازدهـــار الاقتصاد وتحسن الأحوال وارتقاء المعارف  والعلوم ، وتوثقت الصلات بين المغرب و المشرق والأندلس ، فكــــــان المجال سانحا للخلق والبناء والابتكار، وقد استطاع الموحدون بفضل ما أبدعوه من روائـــع تبـــوء المقام السامي في تاريخ الفن الإسلامي ، لا سيما في عهد “يوسف” الذي عاش في إشبيلية وتشبــع بروح الثقافة الأندلسية و زينها بأروع البنايات و المؤسسات العمومية، ثم جاء ولده “يعقوب المنصور” فكان أبدع بناء في تاريخ المغرب الفني ، وقد تجلت أهم البدائع الموحدية خاصة في إشبيلية و الرباط ومراكش التي أصبحت ببناياتها و قصورها وحدائقها أشبــه ببغداد في الشرق (2) ، ولم تقتصر حضارة الموحدين على الجانب العمراني فحسب، بل امتدت إلى مختلف المجـــالات الفكرية و الصناعية و الاجتماعية كالطب و الصيدلة و التعليم وصناعة السفــــن وصناعة البناء ومد القنــــوات والاهتمام بالكتب والخزانات (3) ، وسوف يتم التوقف عند العمارة الدينية الموحدية باعتبارها مرآة عاكسة لثراء و عظمة التراث الحضاري الموحدي ، عمارة تشكلت لبناتها الأولى في مسجد “تينمل” الذي جمع بين ثنائية البساطة و التواضع انسجاما مع مرحلة التأسيس ، قبل أن تبلغ منتهى القوة و العظمة و الإبداع بدءا بجامع الكتبيين بمراكش مرورا بالمسجد الجامع بقصبة إشبيلية بالأندلس وانتهاء بجامع حسان برباط الفتح الذي شكل ولا يزال ليس فقط ” تحفة” المعمار الديني الموحدي ، بل و إحدى روائع الفن المعماري المغربي عبر التاريخ ، وهي معلمة تاريخية لم يتبق منها سوى بدن صومعة شهيرة (صومعة حسان)  وأطلال عبارة عن أعمدة و بقايا السور ، لكنها لا زالت تحمل من جهة ، كل مظاهر القوة و العظمة و الإبداع بالنسبة للناظرين و الزائرين ، ومن جهة ثانية، كل تجليات الغموض و الإبهام بالنسبة للباحثين و المهتمين بحقل التاريخ و الحضارة والمعمار، من منطلق أن المعلمة عبث بها الزمن وفقدت الكثير من مقوماتها وملامحها عبر التاريخ، و ما تبقى منها اليوم يفتح شهية السؤال والتأمل حول عدد من القضايا كالموقع و الإسم (حسان) و التأسيس ، وعليه سنقارب “الموقع”الاستراتيجي للجامع (أولا) ثم سنحاول فك بعض شفرات الغموض و الإبهام الذي أحاط باسم “حسان” (ثانيا) والإحاطة بمختلف النقط الإشكالية التي تثيرها مسألة “التأسيس” (ثالثا) على أن نختم بوصف هذه المعلمة البارزة التي تشكل “تحفة” المعمار الموحدي بامتياز(رابعا) .

– أولا : مسألة الإسم :

لاشك أن مشروعا معماريا عملاقا بهذه القوة والعظمة كانت وراءه دراسة مستوفية وتصميما محكما للمعلمة الجديدة، بتوزيعها الهندسي و مرافقها الهامة و بعدها الجمالي، ولا شك أيضا أن هذا المشروع الذي عكس -وقتها- سمو وعظمة الدولة الموحدية كان يحمل إسما معينا، وهذا أمر طبيعي جدا، لأن أية معلمة لابد لها من إسم يخلدها ويؤرخ لها و لمؤسسها عبر التاريخ ، بيد أنه وباستقراء المصادر الموحدية ، يلاحظ أنها لم ترد إسم الجامع ، كما هو الحال بالنسبة للمراكشي وهو شاهد عيـــان ، ولم يرد كذلك الإســـم في كتابات الرحالة ابن بطوطة ، وأول إشــارة لاسم “حسان” وردت في كتاب “روض القرطاس” لابن أبي زرع الذي روى أنه ” وفي سنــة ثلاثة و تسعين بني رباط الفتح وتم ســوره وركبت أبوابه، وفيها بني جامـع حســان ومناره ” (4) ، مما يفسح الباب على مصراعيه لطرح عدد من الأسئلة المشروعة من قبيل : كيفية تفسير تجاهل الكتابات المعاصرة لاسم الجامع ، و ظروف السبــق الذي كان لصاحب كتاب ”روض القرطاس” في الإفصاح عن إسم الجامع (حسان) ، ثم التساؤل عن الغموض الذي لا زال يكتنف إسم “حسان” الذي اقترن إسمه بهذه التحفة المعمارية ، ثم السب أو الأسباب التي حالت دون ربط الجامع باسم الخليفة المؤسس “المنصور” ، وأخيرا أي “إسم” كان يحمله الجامع أيـام الموحدين ، أسئلة وأخــرى وإن تقاطعت اتجاهاتها، فهي تتلاقى في دائرة الغموض والإبهام الذي ظل ولا يزال يكتنف إسم هذا الصرح المعماري البارز، وما يعمــق هوة الغموض و الإبهام ، هو أن المسجد الجامع و بعد توقف أشغال البناء بوفاة مؤسسه ودخول الدولة في طور التراجع والانهيار، قد دخل في زمن طويل من النسيان والإهمال عبر التاريخ ، بل وسيكون محلا للسرقة و النهب على مستوى الحجارة و الأخشاب ، مما أدخله في دائرة الخراب في ظل الأسر الحاكمة التي تعاقبت على حكم المغرب بعد الموحدين ، ومهما كانت مشروعية هذه الأسئلة ، فقد أثــار إسم “حســــان” فضول الدارسين و الباحثين ، فقد ربطه البعــــض بإسم بانيــه ، وهناك من يذكر أن “حسان” كان مهندسا أندلسيا ، وأنــــــــــه هو الذي وضع تخطيط الجامع والمئذنــة ، وأن ضريحــه يقــع في مقبرة صغيـــرة من الجامع (5) ونسبـه البعض إلى قبيلة “بني حسان”(بني حسن) المستوطنة لجزء من سهل الغرب ، فيما يرى البعض الآخــر أن اللفظ يعود إلى “الحسن” و”الجمال” الذين كانا للجامع ، ويبدو أن هذه القراءات وبدل  فك طلاسيم الغموض الذي يكتنـــف الإسم ، فقد زادت الأمر تعقيــدا وإبهامــا ، إلى حد يصعب معه الميل إلى هذا الطرح أو ذاك ،  وعموما لابد من الإقرار بأن إسم” حسان” طرح وسيطرح إشكالا عويصا أمام الباحثين في خبايــا هذه المعلمة العظيمة ، مما يدعو إلى مباشرة المزيد من البحث و التقصي حول شخصية “حسان” الذي ارتبط إسمه بالجامع، وإلى قراءة النصوص قراءة جديدة تعتمد على المقارنة والتأمل والتساؤل .

– ثانيا : قراءة في الموقــع .

يقع جامع حسان في شمال شرق رباط الفتح،على ارتفاع يصل إلى حدود 30م من سطح البحر، ولم تكن الأرضية المخصصة لبناء الجامع منبسطة تمام الانبساط، بل كان لها انحدار في اتجاه الشمال، مما فرض جلب كمية هائلة من الأتربة لملئ المواضع المنحدرة (6) ،وهذا الواقع يسمح بطرح سؤالين إثنيــن ،أولهما : لماذا تم  اختيار هذا الموضع بالذات، رغم أن الرباط بنيت على أرض الكثير من مواضعها منبسطة أو قريبة من الانبســـاط ؟ ثانيهما : لماذا لم يشيد الجامع في مركز المدينة الجديدة (رباط الفتح) حتى يشكل نواة مركزية تتأسس حولها ما يلزم من مؤسسات ومرافق وتجمعات سكانية ذات الصلة بمدينة في طور التأسيس على غرار المدن الإسلامية ؟ وبتعبير آخر، يمكن التساؤل حول الخصوصيات التي ينفرد بها الموقع/ الموضع المختار، والتي تكون قد تحكمت في اختيارات “المنصور” ومهندسه ، ويمكن قراءة هذه الخصوصيات على النحو التالي :

– على مستوى الموضع ( Site ) :

إن قراءة أولية للموضع ، تسمح بإبداء جملة من الملاحظات منها : ارتفاعه عن مستوى سطح البحر، وإشرافه على النهر (أبي رقراق) و إطلالته على عدوة سـلا وعلى القصبة الموحدية والبحر ، بمعنى آخر يمكن القول أن “الموضع المختار” يتراءى من نقط مختلفة ، وبالتالي فاختياره لم يكن مصادفــة ، بل يعكس دقة في الاختيـــــار وعمقا في التصـــور ودراسة مستوفية للمجـال الطبوغرافي .

– على مستوى الموقع ( Situation ) :

موقع جامع حسان برباط الفتح، ينم عن بعد استراتيجي هام، ويحقق للمعلمة الناشئة قوة وإشعاعا داخل مجالين مترابطين ومتفاعلين : مجال “خاص” تتفاعل فيه ثلاثة أنسجة حضرية تتمركز بين ضفتي أبي رقراق كل من “القصبة الموحدية” و “رباط الفتح” و “عدوة “سلا” فضلا عن “موقع شالة ” ، ومجال عام يمكن قراءته بتموقع “رباط الفتح ” عموما و الجامع خصوصا في مكان يحضى بجاذبية كبرى تجعله قنطرة عبور لا محيدة عنها للجواز  من مراكش العاصمة إلى عدوة الأندلس ، دون إغفال أن تشييد معلمة عملاقة منفتحة على البحر (المحيط الأطلسي)  هو رسالة تعكس قوة و عظمة الإمبراطورية الموحدية التي بسطت نفوذها على مجال واسع من منطقة المغارب ، ومرآة عاكسة لجامع أسس لينافس كبريات المساجد الجامعة بالشرق الإسلامي، ولذلك فقد جاء حاملا لكل معاني القوة والشموخ و العظمة ، وتوضيحا للرؤية لا يمكن فك شفرات الموقع دون استحضار العناصر أو المعطيات التاليـة :

– الرباط شكلت رباطا للمجاهدين وقاعدة لتجهيز الحملات في اتجاه الأندلس ، وبالتالي كان لا بد من إقامة جامع كبير المساحة يطل على النهر ويشرف على البحر، حتى يكون في متناول المجاهدين خاصة أيام الجمعة ، وما يشجع على تبني هذا الطرح ، هو ما  نقش حول إحدى نوافذ “صومعة حسان” جهة البحر من “صورة سيفين عظيمين وجهت رؤوسهما إلى السمـــاء ، وفي تخصيص تلك الجهة بهاتين الصورتين ، إرهــاب للعدو المهاجم من البحر، و رمز إلى التهيــؤ له والاستعداد” (7).

– انطلاقا من العاصمة “مراكش” كان يصعب التدخل في شــؤون الأندلس و خوض الحروب المقدسة ضد القوى النصرانية، مما استلزم بناء مدينة جديدة على شاطئ البحــر، تسمح بإقامة المجاهدين وتساعد على تجهيز الجنــد في اتجاه الأندلس متى دعت الضرورة إلى ذلك ، وقد استجابت “رباط الفتح”  بموقعها الاستراتيجي لكل هذه الأغراض ، واعتبارا  لذلك لا يمكن أن يشيد المسجد الجامع إلا  في هامش المدينة في مكان مطل على النهــر يسمح بعملية الجواز إلى البحــر بكل سلالة ، أما إذا شيد في مركز المدينة مثلا ، فسيشكل ذلك عرقلة للمجاهدين وعبئا إضافيا لهم.

– بعد جامع حسان عن الأنسجة الحضرية لمجال أبي رقراق وإشرافه على الوادي و البحر، يعكس رغبـــة كان القصد منها الاستجابة لأغراض دفاعية و عسكرية ، أملتها ضرورات الجهاد بالأندلس ، ولم يكن القصد منه الاستجابة لحاجيات الساكنة المحدودة جدا لضفتي أبي رقراق.

يمكن الإشارة أيضا إلى أن البحر يحمل أبعادا متعددة الزوايا إن على المستوى الإشعاعي أو التواصلي أو الجمالي ، وهو رمز للقوة و العظمة و الجمال ، فعظمة “حسان” لا توازيها سوى عظمة البحر، وعظمة البحر تجسدت صورتها في هذا الصرح المعماري العملاق ، وكأن المهندس كان يسعــــى إلى تحقيق نوع من المقاربة بين “حسان” و “البحر”، فبقدر ما يعظم البحر، بقدر ما يعظم الجامع و تسمو المنارة الجميلة في سماء العمارة الدينية الموحديــــة ، وحضور البحر ، نقل هذا الصرح من بعده المحلي الضيق ، ليتفتح على مجال لا متناهي حقق ويحقق له إشعاعا أكثر  وشهرة أكبــر، كواحد من روائع الفن المعماري المغربي زمن الموحدين ، وبالتالي لابد من التأكيد  إلى أن أية قراءة لموقع جامع حسان ، لا بد لها وأن تضع الموقع في أبعاده التاريخية والاستراتيجية و الجمالية ، وإلا تكون قراءة أحادية الجانب .

التعليقات مغلقة.