أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

جلسات “ربيع تازة الأدبية الروائية” ضمن تراث المغرب وأيام تازة الثقافية

عبد السلام انويكًة

ضمن أجواء ربيعية، لمَّت قاعة ندوات المديرية الاقليمية لوزارة الثقافة بتازة، مساء27 أبريل الماضي، مساحة حضور نوعي لبى دعوة فكر وتأمل وثقافة وإبداع في إطار “أيام تازة الثقافية وشهر التراث”.

 

ويتعلق الأمر بحفل قراءة وتوقيع عمل أدبي روائي جديد موسوم ب”باب الريح” للأستاذ “عبد الإله بسكًمار”، وقد صدر مؤخرا عن مطابع “الرباط نت” في حوالي مائتي صفحة من القطع المتوسط.

 

جلسة الاحتفاء هاته استهلت بكلمة للمدير الاقليمي لوزارة الثقافة “مالرواية، نير حجوجي”، أثنى فيها على الحفل والموعد ومعهما صاحب العمل، وكذا الحضور عن عالم الثقافة والإبداع والإعلام والمجتمع المدني والبحث، مستحضرا أهمية “أيام تازة الثقافية” بمناسبة اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف، وما أثثها من أهمية برمجة لجملة توقيعات وقراءات، توجهت بعنايتها لِما هناك من مؤلفات حديثة خاصة منها منجز مجال الإبداع الشعري والسرد والنقد الأدبي.

وقد تكلف بمهمة تقديم وتسيير هذه الجلسة الأدبية النقدية والإبداعية الأستاذ “عبد اللطيف جنياح”، معرفا بصاحب الكتاب “عبد الإله بسكًمار”، الذي هو من مواليد “تازة”، وله عدة اسهامات في حقل الأدب والاعلام والتاريخ، الذي له فيه جملة مصنفات حول تازة منها: “تازة بين القرنين 15 و20 / الوظائف والأدوار” و”تقريب المفازة إلى أعلام تازة” و”تازة في الرحلات الحجية والاستكشافية من خلال نماذج وسيطية وحديثة”، فضلا عن عمل موجه للأطفال من إنجاز المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير والموسوم ب”أبطال في الزوبعة”.

 

فضلا عن الإبداع في مجال السرد، يواصل الأستاذ “عبد الإله” نشاطه المدني والإعلامي والبحثي في مختلف المنابر وعلى كل الواجهات.

 

هكذا وعبر متابعة شاملة لبعض تمظهرات الزمان والمكان في رواية “باب الريح” لهذا الأخير، ناقش وحلل الأستاذ الباحث “عبد السلام انويكًة” طبيعة هذا التناول، من خلال بعض شخوص الرواية وبعدها الرمزي ك”مولاي العربي العابد” و”الصديق بن كمران المازوني” و”كنزة بنت الفقيه الوزاني”، مبرزا مدى ارتباطها برأسمال مدينة “تازة” الرمزي والثقافي، كظاهرة “الحضرة ” أو”العمارة” التي كانت تقام ببعض الدور التازية ووسط الأسر الأصيلة بتازة، وكذا مسألة كتابة التمائم و”الحجوبا” من أجل الوقاية ودفع شرور العين البشرية، ولمحاولة شفاء بعض الأمراض النفسية خاصة، وجمع بعض بقايا العظام لأجل السحر وظاهرة الشوافات وغيرها.

 

حيث وصف الباحث في التاريخ والتراث المحلي الأستاذ “انويكًة”، أجواء الرواية ب”سوق بشرية المدينة” والتي يختلط فيها الرمزي بالواقعي، والتاريخي باليومي، والفردي بالجماعي، وفق نسق سردي ينوع من إمكانياته الفنية والجمالية ويستنطق زمن الرواية الموزع بدوره عبر الأمكنة هنا وهناك، وهو زمن زئبقي قد يظهر بوضوح أحيانا، ولكنه يضمر في غالب الأحيان، ومنه دلالات مدينة النحاس كفضاء شامل للحكي يحتوي الفعاليات والشخوص، وخاصة من انزاح منهم عن النسق المنطقي كما هو متعارف عليه عالميا، ك”إدريس باكورة” و”الشريفة” و”خشخش” و”إيرجو” و”بشق عينو” و”الطاس” و”تيرالو”، ولا سيما شخصية “طارزان” الذي ظل يقيم بإحدى المغارات أسفل “باب الجمعة” حتى توفي في ظروف غامضة، رحم الله الجميع.  

 

كما حلل الباحث “انويكًة” حضور شخصيات أخرى في الرواية، “الصديق بن كمران” كنموذج دال على حالة اجتماعية ونفسية متميزة، بقدر ما يحيل على بعده الرمزي بنفس مقدار ما يشير إلى مفارز حياة شاملة مليئة بالمنعطفات ومحطات الإثارة، عبر ميادين وأزقة تازة العتيقة المشار إليها بنعث “مدينة النحاس” وهو لا يتعدى المجال الرمزي الوظيفي ضمن العمل الروائي ولا يحيل على أية دلالة تاريخية، لأن “مدينة النحاس” هي في نهاية المطاف خرافة تناقلتها بعض الحوليات التاريخية العربية التقليدية، وحضورها في الرواية إنما هو للضرورة الفنية لا غير، انسجاما مع ما يقتضيه العمل الروائي.

 

وعبر محور “البعد الفني في رواية “باب الريح”، اتسمت مداخلة الأستاذ الباحث والأديب “المداني عدادي” بالدقة والشمول، من خلال رصد مختلف القوى التي تحكمت في النسيج الروائي للعمل إياه، وقد صنفها صاحبها إلى قوى مادية ورمزية، ومنها رمزية “باب الريح” نفسه، الذي يطرح إحالات مختلفة مرتبطة بدلالات متعددة في الحياة والفن معا، أكثر من موقعها كبوابة كانت موجودة فعلا في الحيز الغربي لتازة العتيقة، ثم انهار جزء كبير منها بفعل الرياح العاتية، وإذن فقد اشتهرت بريحها العاصف، الذي وردت بعض مشاهده في الرواية، بسبب مواجهتها مباشرة لممر “تازة” الرابط بين شرق البلاد وغربها، وعنده تتجمع الرياح الغربية خاصة.

 

ثم انتقل الباحث إلى رصد بعض الشخصيات المحورية في الرواية، كشخصية المعلم الصديق بن كمران المازوني، وكنزة بنت الفقيه الوزاني وشخصيات أخرى، مبديا تساؤلا عريضا حول كثرة وتعدد تلك الشخصيات، ثم الحضور الباهت للزمان عكس المكان والشخوص، علما بأن الرواية تشير إلى عدة أحداث تاريخية عرفها المغرب والعالم العربي خلال الفترة التي تغطيها الرواية، كما لفت الأستاذ الباحث انتباه الحاضرين إلى وجود مفارقات في عمق تلك الشخصيات، ف”الصديق” هو نفسه رب العائلة المتجبر والمنفتح على الأصدقاء ورفاق “القصارة” والمؤدي في ذات الوقت لواجباته الدينية، وهو نموذج فقط للعديد من تلك المفارقات والتناقضات التي كشفت عنها الرواية ضمن تناولها الرمزي والفني طبعا.

 

وأحال ذات الباحث عددا من الرموز إلى مرجعياتها الواقعية، كنعث “الطرابيش” الذي يحيل على “حزب الاستقلال”، و”الشباشب” على “حزب الاتحاد الاشتراكي”، واتحاد الجمهوريات الجماعية على الاتحاد السوفياتي السابق، والدوائر التي اشتغل بها “الصديق” على الإسفنج وغيرها من الإحالات التي تعطي لهذا العمل غنى وتعددا في القراءات وكثافة في الدلالات، كما تعرض الباحث “المدني” لبعض التناصات بدءا من العتبات، حيث حضر التماس مع بعض الآيات القرآنية، مما يؤشر إلى بعد أساسي، مؤكدا في نفس الوقت على صخب الأحداث وتلاحقها بشكل محموم، معتبرا هذا العمل وثيقة متعددة المناحي والتماهيات، كما أنه انتصر لتازة العتيقة من خلال توصيفه لمدينة النحاس، معتبرا شخصية الصديق بن كمران هدية هذا السرد الباذخة.

 

من جهته قدم الأستاذ “عبد اللطيف اجنياح” كمنسق للجلسة الأدبية هذه، نبذة مختصرة عن صاحب العمل “عبد الإله بسكًمار” الذي تعاطى للكتابة منذ أيام شبابه الأولى، حتى راكم العديد من المؤلفات التاريخية والتراثية حول تازة، تلك التي سمحت ومكنت من ملئ فراغ معبر إلى جانب منجزات باحثين آخرين، علاوة على عملين أدبيين يتمثلان في رواية “قبة السوق” الصادرة سنة 2009، والرواية الحالية التي صدرت عن مطابع “الرباط نت” مؤخرا.

 

وأكد ما هناك من تنوع متناغم وتعدد مثير لدى صاحب “باب الريح”، بين الكتابة الأدبية من جهة، ونظيرتها التاريخية والصحافية من جهة ثانية، لأنه كما قال “حين يعوزني التعبير التاريخي ألجأ للرواية أو للكتابة الصحافية أو حتى التأملية “.

 

كما قدم الأستاذ “جنياح” لكل من صاحبي القراءة الأستاذ “عبد السلام انويكًة” والأستاذ “العدادي مداني”، فضلا عن مرافقة موسيقية رصينة للفنان “النياتي عبد اللطيف الجزاري” التازي، وقد عزز غنى الجلسة شريط وثائقي حول بعض معالم تازة البارزة من توضيب وإنجاز الفنان “يوسف التوزاني”.

 

وفي كلمة أخيرة لصاحب العمل تحدث “ذ عبد الإله بسكمار” عن بعض التباسات التجنيس والفرق بين الرواية والسيرة الذاتية، وكذا عن علاقة الرواية بالتاريخ، وأخيرا مسألة العنوان وما تطرحه من أسئلة منهجية ومفاهيمية.

 

وأكد صاحب العمل أن ما كتبه في “باب الريح” إنما هو يستقيم كعمل فني روائي، ورغم ما قد يحبل به من مشاهد ومواقف تنتمي لمجال السيرة الذاتية للمؤلف، فإنها في الأخير تنتمي أجناسيا لفن الرواية، بدليل الميثاق الروائي Pacte Romanesque   الذي يحلي عنوان الكتاب مباشرة، أي كونه رواية وليس سيرة ذاتية، ثم إن الراوي الأساس (مخبول باب الجمعة) والشخصية المحورية أي “الصديق” أو “عبد الهادي” ليست هي شخصية المؤلف، فضلا عن التنويع في الضمائر بين الغائب والمخاطب والمتكلم والمراوحة في أساليب سرد وتداخل بعد حكائي تقليدي بتداعيات وارتدادات  واحلام وهلوسات أحيانا، الشيء الذي يمنح العمل دينامية فنية بما لا يقاس تبعا لكون المنجز إياه يصنف كرواية بالأساس يتحكم فيها المخيال الأدبي.

 

وفي محور علاقة الرواية بالتاريخ، أوضح صاحب العمل، أن المجالين متمايزان في نهاية المطاف، سواء من حيث المنهج أو الموضوع، لكن هذا لا ينفي التداخل بين التاريخ كأخبار وأحداث وبين فن الرواية، لأن النص السردي يظل أسير الزمن ومشاهده، بهذا القدر أو ذاك، فالتاريخ كما يذهب إلى ذلك عبد الله العروي: “رواية مروية والرواية تاريخ متوقع”، وحين نتناول الروايات التاريخية كتلك التي ألفها “والتر سكوت” أو “جورجي زيدان” أو “طه حسين” أو “نجيب محفوظ” أو “عبد العزيز بن عبد الله” أو “عبد الكريم غلاب” وصولا إلى “أمين المعلوف” كنماذج، نجدها تنتمي قلبا وقالبا لا إلى مجال التاريخ، كما يتخيل البعض بل إلى ميدان الفن الروائي في نهاية المطاف، ولا يمكن للتاريخ في المقابل كعلم له منهجه وقواعده أن يتبنى الرواية كوثيقة تاريخية، حيث يكتفي غالبا إذا مرت الأزمنة على  الأحداث والوقائع، أن يذكر بعض المحطات هنا وهناك والتي لها علاقة بتحليل مرحلة تاريخية ما لا أقل ولا أكثر، في حين تروم المعرفة الأدبية خلق المتعة الفنية لدى القارئ، بإعادة تشكيل الواقع على نحو أكثر تماسكا وجمالية.

 

ويظل علم التاريخ رهينا بالوثيقة ومدى مصداقيتها وتبقى معارفه ومعلوماته “مزعجة” في غالب الأحيان، كما ذهب إلى ذلك “عبد الله العروي”.

 

وحول مسألة عنوان الرواية أوضح صاحب العمل أن له بعدان أساسيان واقعي ورمزي، مؤكدا أن البعد الثاني يغلب على الأول، وأن “باب الريح” كموقع أثري بتازة العتيقة، لا يتعدى علاقة الرصد التاريخي من جهة، وبعض لحظات طفولة الكاتب من جهة أخرى، غير أن رمزية الرياح المتعددة الدلالات وتفرد التسمية على الصعيد الوطني تعد عاملا من العوامل الاساسية التي تحكمت في هذا الاختيار.

 

وقد انتهى هذا الحفل الأدبي الرفيع والبديع، بتوزيع شواهد استحقاق ومشاركة وعرفان على من أنجح وأثث هذا النشاط المتميز ضمن ايام تازة الثقافية لربيع هذه السنة، قبل الانتقال الى حفل توقيع نسخ كتاب رواية “باب الريح”.

التعليقات مغلقة.