أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

خربشات أصوات: الجبلاوي في وادي زم

في ليلة هادئة، انتصف القمر في كبد السماء، وغلقت الأبواب والنوافذ، وازدادت شوارع المدينة فراغا وهدوء، لا الأضواء تزين المدينة ولا تقاسيم عود فنان عاطل تعزف ليلا ، ما عدا منزل وحيد في أقصى أحياء المدينة لا زال ضوء القنديل يحترق تحت ستائر النافذة، حيث شبح شاب جالس على كنبة وممسك بعقب سيجارة ينفث دخانها، حتى خيل للبعض أن حريقا شب أو حفلة شواء ابتدأها أصحابها ليلا رحمة بأنوف الجيران. يقوم من الكنبة، يتمشى قليلا، ثم يرجع إلى مكانه وهو يشهق الدخان بشراهة و يسحق عقب السيجارة في المنفضة، يشعل سيجارة أخرى، يميل قليلا نحو الشرفة ليطمئن على الظلام الدامس، وأن لم أحد صاح غيره فأطلق زفرة تهد الجبال الرواسي قائلا:
– أما آن الأوان يا جبلاوي أن تخرج من عزلتك وتخلصنا من براثن الظلم؟ أم أنك تريد أن توهمنا بموتك؟ أعلم أنك لا زلت حيا يا جبلاوي ولك خدم سريون يوشون لك بحال المدينة. فقم يا جبلاوي.
تردد صوته فعاد إليه دون أن يسمعه لا الجبلاوي ولا أهل المدينة النوم، عاد إلى الكنبة جلس قليلا شرب كأس ماء وكأنه ألقى به على نار مشتعلة، أعاد تصفح جرائد النهار بسرعة دون أن يلمح العناوين حتى يداري ارتباكه وخوفه أو ربما أشياء أخرى.
فتحت المدينة في الصباح أعينها على سوقها الأسبوعي، يقصد سكان القرى المجاورة مداخل المدينة مسرعين فيهبون نحو السوق فمنهم من ولجه ومنهم من يطوف حوله، بأسمالهم المعتادة وجلابيبهم التي فقدت لونها وجعلتها ثقوب السجائر كغرابيل، لا يحلقون شواربهم التي جاوزت الشفة السفلى إلا قليلا. وما هي إلا لحظات حتى كشفت الشمس عن وجهها، يبدأ بائعو الخضر في تحية بعضهم والحديث عن أرباح سوق البارحة بأفواه تنبعث منها رائحة دخان السجائر وأسنانهم السوداء مثل حيواتهم وبجانبهم كؤوس شاي يرشفون منها أو ينسيهم الحديث والسخرية فيها، ويلاقيهم صدى صوت صراخ بائعي الملابس المستعملة الذين استأجروا أطفالا تصدح حناجرهم بأنواع الملابس المعروضة، يصرخ مراهقان بملابس النساء الحميمية ويتضاحكان فيما بينهم، وارتفعت حدة التآمر بعد قدوم سيدة ممتلئة ذات أرداف كبيرة وصدر ضخم يرضع نصف السوق الأسبوعي حسب رأي أحدهم، فاستبق أحدهما الوضع فرفع حاملة صدر دحداحة ممازحا. وذلك قبل أن ينتصف النهار ويرتفع دخان الشواء الذي يفغر الأفواه ويستنهض الهمم لأن فقراء المدينة يعلمون أن التوجه إلى هذه الناحية محصور على إقطاعيي المدينة وأعيانها أو الذين باعوا أحد قطعان الغنم، ورغم ذلك يحبون هذه الرائحة لأنها تكسر دخان مراكز تنشيف الفوسفاط الذي يضيقون به طوال أيام الأسبوع.
وفي غمرة هذا الصخب يستيقظ “عمارة” بعد أن قضى ليله في التفكير، يقف قليلا فلا يلبث إلا أن يتقرفص إلى جانب أمه لكي يشطر الخبز، ويفطر على أنغام جارته التي تعاتب زوجها العاطل كل صباح.
خرج عمارة من المنزل أو الكوخ كما يحب مناداته، دون أن يغير ملابسه التي اعتاد النوم بها، مر من الطريق المحاذي للسوق الأسبوعي، حياه أحد أصدقاء الدراسة القدامى الذي يشتغل كبائع للفواكه، قصد عمارة العربة في اعتدال وتناول تفاحة دون استئذان، مازحه صديقه صاحب العربة “لقد درست حتى تساقط شعرك وتسرق في آخر أيامك” لوح له عمارة بيده دون التفات، وصل إلى مقهى “ماجور” فلمحه النادل فحضر له قهوته السوداء المرة كما يطلبها، أخذ يتصفح جريدة يتصفحها بسرعة فسب كل شيء وقال بصوت لا تسمع كلماته “البؤس أينما ذهبت”. وماهي إلا لحظات حتى وصل أبو آية رفيق دربه واللذين تقوت شوكة صداقتهما بعد اعتقالات الجامعة عندما كانا يناضلان في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. جلس إلى جانبه دون تحية، يحمل في يده عود ثقاب وهو يحملق في الطاولة بحثا عن سيجارة، صمت أبو آية لحظة وخاطبه قائلا:
– ماذا سنفعل في أمرنا هذا لقد سئمت من النضال فكلما زادت حدة نضالنا إلا وازدادوا سعارا؟ رد سعيد:
– لن ننهزم أمام الكلاب…
فجأة دخل رجل يلبس نظارتين سوداويتين وجلس في الطولة المحاذية، أدرك عمارة الأمر فصعد على أحد الكراسي التي كانت بقربه وأخذ يصرخ حتى انتفخت أوداجه “هذه ليست مقهى “ماجور” بل مقهى “ماخور” لأن أبناء العاهرات كثيرون هذه الأيام” ثم نزل من أعلى الكرسي. افتعل الرجل مكالمة هاتفية ثم خرج…
بدأ عمارة دردشته مع أبو آية بتوجيه كلامه المعهود:
– سنأخذ معركة أخرى جديدة ضد مدير الوقف “البصيري” وإن كلفني ذلك الاعتقال مرة أخرى، رغم أن جراح سوط الفتوة الجديد لم تندمل بعد في جسدي. رد عليه أبو آية:
– ما يحز في نفسي هو مدير الوقف “البصيري” الذي عهد له أهل المدينة بأمورهم، فتحالف مع الفتوة ليشبعوا الناس قهرا وفقرا ويركلوا مؤخراتهم الضامرة.
– المهم أني لن أسكت…
قاطعه أبو آية: أنسيت ما فعل بك الفتوة أمام الناس؟ دع الأمور تسير كما هي أو على الأقل حتى يتناسى الناس ذلك الحدث…
صرخ عمارة مرة أخرى رغم أن أبو آية غير بعيد عنه: لن أمنحه تلك الفرصة، بل سأعيد الرمة إلى عنقه ليشنق أمام أهل المدينة، فالطاغية كلما أحس بفتور المناضلين يفكر في خطة للقضاء عليهم نهائيا.
قال أبو آية مطأطئ رأسه: ليت الجبلاوي يخرج من عزلته تلك ليخلص أبناءه من هذا الظلم والجور، ويفضح نفاق مدير الوقف الذي لا يكف عن التسبيح وذكر الله أمام أهل المدينة كلما أحسوا بالجوع. قطب عمارة حاجبيه وقال:
– لقد كفرت بالجبلاوي وعدله، فلا خير في رجل انزوى في ركن الوقف ليقضي حياته في التعبد تاركا أهل المدينة لنفاق “البصيري” وشراسة الفتوة وكلابه المسعورة.
فتح هذا النقاش شهية عمارة للتدخين، وقال دون أن ينفث الدخان هذه المرة: لقد استقرت العادة أن تتغير أحوال المدينة كلما كثر الظلم وثار أهلها، ولكن يبدو أن هذه المرة لا الجبلاوي سيخرج ولا أهلب المدينة ستتغير أوضاعهم، ولكن ذلك لن يمنعني من مواصلة رفعي نبوتي أمام الفتوة ومدير الوقف، حتى لا يظنا أنه لم يعد رجال في المدينة.

التعليقات مغلقة.