عبد السلام انويكًة.
بقدر ما قد تكون طبيعة النظام الصيني على عهد”ماو” وما هو شيوعي وراء صرف الاهتمامات البحثية المغربية حول الصبن، بقدر ما قد يكون للسياسة من أثر في هذا الشأن لِما طبع علاقات اليسار في المغرب بالسلطة لفترة من توتر. ولعل ما هناك من اعتبارات ذاتية وموضوعية تجعل إلتفات وانصات الباحثين المغاربة لزمن الصين غائباً، يكاد يكون معه البحث في العلاقات المغربية الصينية ومن ثمة في تاريخ هذا البلد بالمغرب ترفاً ومجازفة. لتتجه الأبحاث الأكاديمية التاريخية كذا السياسية فيه لقضاياه الوطنية، ولتظل الصين خارج عمل الدراسات رغم ما طبع علاقات البلدين دوماً من أجواء احترام وتعاون متبادل. ويُسجل أن عزوف الباحثين المغاربة عما هو بيني علائقي مغربي صيني، يجد تفسيره فضلاً عما هناك من بعد جغرافي وحاجز ثقافة ولغة، في غياب أرشيف وطني خاصة من شأنه توفير مادة علمية شافية لبناء عمل علمي يخص العلاقات المغربية الصينية. علماً أن الخوص في حقل الصينولوجيا Sinologie الذي يجعل من الصين مادته الأساس كمجال حضاري وتاريخي وبشري واجتماعي وسياسي واقتصادي واستراتيجي، بقدر ما هو مساحة لتوسيع الانتماء لهذا الحقل، بقدر ما هو تفاعل مع انجذاب باتت عليه الصين كظاهرة تاريخية أثبتت قدرتها على فرض وجودها كفاعل جديد في المنتظم الدولي، وبالتالي ما تقتضيه من اهتمام ودراسة.
اشارات وغيرها استهل بها الأستاذ ميمون مدهون أحد الأكاديميين المغاربة المتخصصين في العلاقات المغربية الصينية والباحث بكلية الآداب والعلوم الانسانية سايس فاس، تقديماً عميقا لمؤلَّف جمع بين ما هو تاريخي وسياسي، مؤلف رصين موسوم ب:”الصين في العلاقات الدولية دراسة في البرغماتية الصينية”، صدر له حديثاً ضمن آخر أعماله البحثية العلمية العلائقية عن منشورات الرباط نت في طبعة أولى بدعم من وزارة الثقافة بأزيد من أربعمائة صفحة. مضيفاً أن مكانة الصين في المعادلات الاستراتيجية الدولية سواء إبان فترة إقصائها وعزلتها أثناء العهد الماوي، أو خلال مرحلة خيارها الواقعي البراغماتي المنفتح، تجعل من النبش في الموضوع ومن خلاله في العلاقات المغربية الصينية بقدر عالٍ من الأهمية على عدة مستويات.
إن الصين التي تجمع بين قوة عظمى بحكم عضويتها الدائمة في مجلس الأمن وقدُراتها النووية، وبين دولة شيوعية في رأي قادتها مع اقتصاد يتحرك على إيقاع اقتصاد السوق “الاشتراكي”، وبين انتماء لعالم ثالث لِما هناك من تخلف مع معدل نمو اقتصاد بالمقابل يصل تسعة بالمائة سنويا يجعلها تحتل المرتبة الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة الأمريكية. ولعل الصين بهذه الخصوصية تشكل حالة شاذة وبلداً وحيداً يجمع بين مفارقات ثلاثة :”قوة عظمى ودولة اشتراكية وانتماء لعالم ثالث”، بقدر ما تثيره من سؤال بقدر ما تدعو ايلاء هذا البلد ما ينبغي من اهتمام خاص- يقول المؤلف-، لمِا لقادته من سعي حثيث لتمكينه من استعادة مكانته كقوة لها وزنها في معادلات العلاقات الدولية.
ولا شك أن مؤلف “الصين في العلاقات الدولية” باستحضاره لموقع وتفاعلات المغرب في خريطتها، بقدر ما تقاسمته تساؤلات حول طبيعة علاقات هذا البلد بقوتين كبيرتين الاتحاد السوفييتي سابقاً والولايات المتحدة الأمريكية، وما حصل من تحالف وتحالف مضاد ومواجهة وتعايش وحرب باردة وطبيعة توازنات ودبلوماسية مع قطبية أحادية لاحقاً، بقدر ما استحضر من أبعاد قارية كما بالنسبة لأفريقيا والعالم العربي ومن ثمة المغرب. وعليه، جاء الكتاب منهجياً بأبواب أربعة بفصلين لكل واحد منها. الأول منها توجه بعنايته لسياسة الصين الخارجية ومكانتها بين الكبار”، وخصص الثاني لِما نسجته الصين من علاقات مع القارة الإفريقية على خلفية مبادئ تعايش سلمي إثر مؤتمر باندونج التاريخي، كذا مشترك رمزي تاريخي طبع علاقاتها بالقارة السمراء يجمع بين تجربة استعمار وتخلف ورغبة مقاومة للإمبريالية وغيرها.
واذا كان ما هو علائقي حضاري مع البلاد العربية هو ما تمحور حوله الباب الثالث، فإن الرابع من مؤلف “الصين في العلاقات الدولية” استهدف طبيعة علاقات الصين الخارجية مع المغرب بكيفية خاصة في بعدها الثنائي، من خلال ما تم تناوله من مشترك تاريخي وذاكرة جماعية بين الشعبين المغربي والصيني، من رمزية لرحلة ابن بطوطة وصدمة استعمارية مر بها البلدان كذا من تخلف وانتماء لعالم ثالث. ويسجل الأستاذ ميمون مدهون أن من المفارقات التي جعلت علاقات البلدين بطابع خاص، كون حساسية المملكة المغربية تجاه الإيديولوجيا الشيوعية وطموحاتها الثورية، لم تمنع من إقامة علاقات مبكرة مع الصين الشعبية، تلك التي بدأت ملامحها بمناهضة الصين للوجود الاستعماري في المغرب ولكل ما يمس بوحدته وسيادته، وبالتزام المغرب مبدئياً بالدفاع عن حق الصين الشيوعية كممثل شرعي وحيد للصين رغم انتمائه للمعسكر الغربي. مسجلاً عدم نجاح هذا التفاعل الايجابي في الانتقال بالعلاقات الثنائية لِما هو أبعد، لاقتصاره على جوانب اقتصادية وبعض أشكال تعاون محدودة ضمن سياسة مساعدات نهجتها الصين في اطار تنافسها مع الاتحاد السوفييتي بإفريقيا. مشيراً لمِا عرفته علاقات البلدين من انتعاش بعد الانتقال من العهد الماوي، بحيث في الوقت الذي وقف فيه نشاطها الدبلوماسي عند حدود زيارة رئيس الوزراء الصيني “شوان لأي” للمغرب، شهدت مرحلة ما بعد «ماو” نشاطا دبلوماسيا مكثفا بلغ مستوى الرئاسة والوزارة الأولى بزيارة عدد من رؤساء الصين للمغرب وتسجيل أول زيارة لملك المغرب إلى الصين. فضلاً عن توقيع البلدين على أول وثيقة سياسية في تاريخ علاقاتها، ما يُعَد مؤشرا بالغ الأهمية على درجة تنسيق وتشاور باتت تطبع علاقات البلدين في العديد من القضايا رغم ما يعتريها من محدودية وما تفتقده من شروط تكافؤ.
وحول العلاقات المغربية الصينية في المؤلف، ضمن مقاربة لحوار هادئ وروح برغماتية بين البلدين، ورد أن ما حصل من تضامن بينهما كان نِتاج وعي لهما معاً، وعليه، احتضنت الصين استقلال المغرب قبل انعقاد مؤتمر باندونج عام ألف وتسعمائة وخمسة وخمسين، من خلال خطاب شديد اللهجة ألقاه الوزير الأول الصيني “شوان لأي”، منتقدا سياسة فرنسا الاستعمارية من جهة ومشيدا بنضال شعوب المنطقة مدعما لاستقلالها من جهة ثانية. ولعل زعماء الحركة الوطنية المغربية كانوا مدركين لأهمية كتلة أسيا ومنها الصين في معركة استقلال البلاد، ذاك أنهم اعتبروا مؤتمر باندونج حدثاً عظيماً بأثر كبير على اقرار السلام، علماً أن الوفد الصيني- يضيف الأستاذ ميمون مدهون- قَدِم للمؤتمر وهو على اطلاع بالملف المغربي على أساس ما كان للرعيل الأول من الثوريين الصينيين من علاقة بالحركة الشيوعية في المنطقة المغاربية. ويسجل للصين ما كان لها من موقف داعم للمغرب بُعيد استقلاله على مستوى استرجاع سيادته كاملة على أراضيه، ومن تنديد بما كان على ترابه من قواعد عسكرية أمريكية انسجم مع موقف الدولة المغربية الفتية الرسمي.
وقد بادر المغرب في ربيع سنة 1957 بارسال وفد عن مجلسه الاستشاري برئاسة المهدي بن بركة الى بكين، حيث استقبله “ماو تسيتونغ” الرئيس الصيني معرباً رغبة بلاده في تعزيز التعاون واقامة علاقات دبلوماسية مع المغرب. وكان تفاعل البلدين الاقتصادي على تواضعه آنذاك بدور في تقوية التواصل بينهما، بحيث دعم المغرب قضايا الصين الوطنية وكان قرار اعترافه بجمهورية الصين الشعبية في خريف 1958 بقدر عالٍ من الجرأة. ولكونه اتخِذ في زمن حرب باردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، فقد أثار قراءات عدة هنا وهناك بالولايات المتحدة الأمريكية ولدى مهتمين بالعلاقات الصينية الافريقية وغيرهم.
ومما ورد حول العلاقات المغربية الصينية في مؤلَّف الأستاذ ميمون مدهون، ارتكاز موقف المغرب إزاء الصين على قناعتين أساسيتين، عدالة القضية الصينية من جهة وضرورة فتح الهيئات الدولية لجميع الدول على السواء من جهة ثانية. ولقبول عضوية الصين الشعبية في منظمة اليونيسكو كان المغرب من بين 25 دولة صوتت في خريف 1958 لصالح مقترح سوفياتي في هذا الشأن، كما ناشد المغرب المجتمع الدولي في كلمته بالجمعية العامة للأمم المتحدة خريف 1960، لقبول الصين في هيئة الأمم المتحدة مشيراً لعدم واقعية بقاء 600 مليون صيني أي ثلث سكان العالم آنذاك خارج هذه المنظمة.
وقد شكلت زيارة الوزير الأول الصيني”شوان لاي” للمغرب مطلع ستينات القرن الماضي، حدثاً تاريخياً متميزاً باعتبارها أول زيارة لوفد صيني رفيع المستوى ضمن جولة له بافريقيا. بحيث جاء في كلمة الصين أن المغرب بلد تاريخ عريق متجدر في القدم، وشعبه بماضي نضالي مجيد ضد الاستعمار وأن استقلاله جاء بعمل بطولي ومجهودات جبارة، وأن سياسة المغرب الخارجية تقوم على سلم وحياد وتروم بناء وحدة افريقية وتضامن افريقي اسيوي فضلاً عن دعمها وحفاظها للسلم العالمي. من جانبه بالمناسبة أثار الملك الحسن الثاني في كلمته ما هو حضاري انساني مشترك بين البلدين، مؤكداً على مشاعر خير وتسامح وتفاهم يطبع الشعبان كذا على ما عانياه من محن لتحقيق حريتهما ووحدتهما الترابية، فضلاً عما يبذلانه من جهود لتدارك تأخرهما من أجل بناء مستقبلهما بإرادة قوية وايمان راسخ.
وكانت زيارة الوفد الصيني للمغرب بأثر ايجابي في الحفاظ على حضور صيني به وضمان استمرارية علاقات، رغم أنها لم تستطع الانتقال بها لِما هو أعلى لأسباب عدة- يقول المؤلف- . متحدثاً عن بدايات تعاون تجاري صيني مغربي منذ نهاية خمسينات القرن الماضي، كذا ما طبع هذه العلاقات من تعاون في مجال بنيات تحتية شملت عدة أوراش مغربية منذ ربيع 1975، فضلاً عن تعاون طبي ارتبط بسياسة مساعدات دأبت عليها الصين لفائدة دول افريقية منذ الستينات، تعود بداياته مع المغرب لنهاية السبعينات من خلال بروتوكول تعاون.
ويسجل أن رهان انتقال العلاقات المغربية الصينية من واقع تعاون الى واقع شراكة، كان بتفاعل ايجابي مع قرارات الصين وما عرفته من تغيرات استراتيجية تجاه دول العالم الثالث منذ نهاية السبعينات. وعليه، ما حصل من دينامية وأبعاد تعاون جعلت البلدان بطموح لشراكة استراتيجية أكثر عمقاً، عرض لها الباحث من خلال مؤشرات عدة طبعت الحوار السياسي الصيني المغربي، منها ما تعلق بزيارات رفيعة المستوى منذ نهاية خمسينات القرن الماضي الى غاية نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة. ومما عكس منها حيوية العلاقات وشمل ما هو حزبي ونقابي وبرلماني كذا عسكري، توقف الأستاذ ميمون مدهون على ما اكتسته زيارة الوزير الأول عبد الرحمن اليوسفي للصين نهاية التسعينات من دلالات، لارتباطها بسياق متميز هم تجربة تناوب توافقي سياسي دخلها المغرب، لعلها الثانية التي بلغ فيها الاشتراكيون أعلى مناصب القرار بعد تجربة عبد الله ابراهيم نهاية الخمسينات. زيارة ورد أنها جاءت ضمن وعي مغربي يخص اعادة قراءة مرتكزات البلاد المجالية والاستراتيجية في علاقاتها الدولية، ناهيك عما استهدفته من توسيع وعاء تعاون على عدة مستويات.
وضمن مؤشر زيارات بينية مغربية صينية رفيعة المستوى، تم الحديث عن زيارة الملك محمد السادس للصين قبل حوالي عقدين من الزمن، كأول زيارة لملك مغربي لهذا البلد منذ اقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما قبل أزيد من أربعة عقود، وقد ارتبطت بجملة مستجدات منها ما عرفته الصين من تعاظم دور على المستوى السياسي والاقتصادي، كذا ما طبع رؤية المغرب الجديدة من انفتاح خارجي من اجل الانخراط في دينامية تسمح بالانفتاح على قوى مؤثرة في العالم، فضلاً عن تجديد المغرب لروابط تاريخية تجمعه بدولة صديقة ذات مكانة قوية في المعادلات الدولية.
ومن الزيارات الرفيعة المستوى عن الصين تلك التي قام بها “جينتاو” للمغرب ربيع 2006، كأول زيارة لرئيس صيني في الألفية الثالثة الى بلد تجمعه بالصين علاقة صداقة وتعاون وطموح لشراكة بأبعاد متعددة. تمثل فيه قضية السيادة والوحدة الترابية المغربية احدى قواسم العلاقات المغربية الصينية، ذلك أن المغرب والصين ورثا عن الفترة الاستعمارية مشاكل عدة تخص وحدتهما الترابية. واذا كانت قضية الصحراء المغربية قد تطورت من قضية تصفية استعمار الى قضية انفصالية بأبعاد دولية بعد دخول أطراف على الخط، ظلت قضية تايوان منذ بدايتها قضية انفصالية نِتاج حرب باردة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وكان موقف المغرب منذ اعترافه بجمهورية الصين واضحاً ازاء تايوان ضمن ثوابت علاقات البلدين، بل يدعم الصين تجاه قضية الثبت وقضية سينكيانغ باعتبارهما شأناً صينيا داخلياً- يضيف المؤلف-.
يبقى مؤلَّف “الصين في العلاقات الدولية” الرصين، بقدر ما تأسس عليه من مادة مصدرية وثائقية متباينة، توزعت على تقارير رسمية ووثائق منظمات وهيئات دولية ومنشورات وتقارير رسمية ومذكرات رجال دولة وكتابات متخصصة وأخرى عامة، بقدر ما سجل من خلالها الأستاذ ميمون مدهون ما حظيت به علاقات الصين بالاتحاد السوفييتي سابقاً والولايات المتحدة من تتبع واهتمام بالغ ودراسات شاملة، ليظل منها ما يخص العلاقات الصينية الافريقية قليلا يغيب فيها الإسهام العربي باستثناء مقالات هنا وهناك. مضيفاً أنه اذا كان نفس الشيء هو ما يخص ويطبع موضوع العلاقات العربية الصينية، فإن الأبحاث حول العلاقات المغربية الصينية- اللهم اشارات هنا وهناك- تغيب بشكل مثير للسؤال. وعليه، فما تقاسم مؤلَّف “الصين في العلاقات الدولية” من محاور وقضايا هامة منها العلاقات المغربية الصينية، وما تأسس عليه من أرشيف وببليوغرافيا باللغة الانجليزية والفرنسية والعربية. جعله بسبق لموضوع لم يكتب عنه الا القليل القليل لدرجة لا شيء. ومن هنا تدشينه لواجهة بحثية ملأت بياضاً حقيقيا موفراً بذلك نصاً أكاديمياً رفيعاً، بقيمة مضافة عالية لفائدة خزانة البلاد العلمية التاريخية ومن ثمة لفائدة بحثٍ وباحثين ودبلوماسيةٍ ودبلوماسيين.
التعليقات مغلقة.