خطاب العرش من رسائل الانفتاح إلى سياسة صم الآذان الجزائرية
محمد حميمداني
حمل خطاب العرش الذي ألقاه الملك المغربي محمد السادس ، أمس الثلاثاء ، رسالتين هامتين ، الأولى تتعلق بالوضع الوبائي الذي يعيشه العالم و ضمنه المغرب ، و ارتفاع أرقام الإصابات بفيروس كورونا ، و الثانية متعلقة بالعلاقات المغربية الجزائرية التي تعرف توثرا حادا في الآونة الأخيرة ، و دعوة الملك الجزائر إلى “البحث عن آلية مشتركة للحوار الصريح و التشاور” لتجاوز كل الخلافات و العودة بالعلاقات إلى شكلها الطبيعي و فتح الحدود المغلقة بين البلدين .
و هكذا فقد دعا ملك المغرب الجزائر إلى إجراء حوار “مباشر و صريح” ، داعيا إلى “تجاوز الخلافات الظرفية و الموضوعية التي تعوق تطور العلاقات بين البلدين” ، واصفا الوضع القائم بأنه “غير طبيعي و غير مقبول” ، و مقترحا خطة عمل للرقي بتلك العلاقات قائمة على “الحوار و التشاور” من خلال توفر إرادة فعلية لدى الطرفين من أجل “الانكباب على دراسة جميع القضايا المطروحة ، بكل صراحة و موضوعية ، و صدق و حسن نية ، و بأجندة مفتوحة ، و دون شروط أو استثناءات” ، مشددا على أن “أمن الجزائر و استقرارها من أمن المغرب و استقراره ، و ما يمسنا يمسهم” .
و دعا ملك المغرب إلى فتح الحدود المغلقة بين البلدين مند العام 1994 ، حيث قال “لم يعد هناك الآن أي سبب يبرر إغلاق الحدود بين البلدين” ، معتبرا أن هذا الموقف “يتنافى مع المواثيق الدولية و معاهدة مراكش التأسيسية لاتحاد المغرب العربي ، التي تنص على حرية تنقل الأشخاص ، و انتقال الخدمات و السلع و رؤوس الأموال بين دوله ، و أن هذا الوضع لم يعد له من مبرر ، مضيفا بنظرة تفاؤلية أن “الحدود المفتوحة ، هي الوضع الطبيعي بين بلدين جارين ، و شعبين شقيقين” .
خطاب سيشكل لا محالة مفاجأة للشعب الجزائري في ظل أجواء التوثر المسجلة ، لأنه لم يحمل رسالة سلام فقط ، بل رسالة تعاون و مشاركة استراتيجية بين بلدين تجمعهما كل روابط العمل المشترك لما فيه مصلحة الشعبين و البلدين ، و أيضا للمسؤولين الجزائريين الذين راهنوا على سياسة التصعيد لاحتواء الوضع الداخلي المتفجر و هو ما سيخلق جوا من الإرباك و يسقط كل أوراق التوت التي راهن عليها النظام الجزائري .
المبادرة التي أتت في ظل أجواء مشحونة تمر منها علاقة البلدين شكلت طوق نجاة لتجاوز وضعية التوثر إلى وضعية بناء الثقة عبر فتح حوار مسؤول حول كل القضايا الخلافية ، و العمل على بناء شراكة عادلة تضمن حقوق جميع الأطراف ، و بناء وحدة فعلية اقتصادية تحقق الرفاه للشعبين المغربي و الجزائري و باقي شعوب المغرب العربي ، و عرقلة كل المشاريع التي تستهدف استقرار و أمن المنطقة المغاربية ، و هو ما حملته دعوة العاهل المغربي الرئيس الجزائري إلى العمل معا في أقرب وقت ، على تطوير العلاقات التي بنيت عبر سنوات من الكفاح المشترك و التي رسم معالمها قول جلالته بأن “ما يمس أمن الجزائر يمس أمن المغرب ، و العكس صحيح” ، مشددا على أن البلدين هما أكثر من جارين ، بل أنهما “توأمان متكاملان” .
و أشار الملك محمد السادس إلى المشاكل المشتركة التي يعاني منها البلدان قائلا إن البلدين “يعانيان معا من مشاكل الهجرة و التهريب و المخدرات و الاتجار في البشر ، فالعصابات التي تقوم بذلك هي عدونا الحقيقي و المشترك ، و إذا عملنا سويا على محاربتها ، سنتمكن من الحد من نشاطها ، و تجفيف منابعها” ، كما عرج الملك محمد السادس على الوضع الذي عرفته العلاقات بين البلدين في الآونة الأخيرة معربا عن أسفه “للتوترات الإعلامية و الدبلوماسية ، التي تعرفها العلاقات بين المغرب و الجزائر ، و التي تسيء لصورة البلدين ، و تترك انطباعا سلبيا ، لا سيما في المحافل الدولية” ، داعيا إلى تجاوز هذا المنطق و تغليب “منطق الحكمة ، و المصالح العليا ، من أجل تجاوز هذا الوضع المؤسف ، الذي يضيع طاقات بلدينا ، و يتنافى مع روابط المحبة و الإخاء بين شعبينا” .
فالخطاب الأخير حمل رسالة شجاعة في ظل أجواء مشحونة بالتوثر ، حاملا الحلول للمشكلات القائمة و مؤسسا لشروط علاقات مستقبلية تخدم المصالح المشتركة للبلدين و الشعبين من موقع الرؤية الواقعية و السياسية و الأخلاقية في التعاطي مع الأحداث ضمانا للأمن و الاستقرار و التنمية و الرفاه .
من جهة أخرى نبه العاهل المغربي ، إلى الوضع الوبائي الخطير الذي تعرفه بلادنا ، داعيا المغاربة إلى المزيد من اليقظة و احترام توجیهات السلطات العمومية ، مشيدا بدور العاملين في القطاع الصحي ، و القوات الأمنية ، و السلطات العمومية ، في مواجهة الجائحة ، حيث قال “إنها مرحلة صعبة علينا جميعا” ، مشيدا بالخطوات التي بذلت من أجل الحصول على اللقاح قائلا “من حقنا اليوم أن نعتز بنجاح المغرب في “معركة الحصول على اللقاح” ، التي ليست سهلة على الإطلاق ، و كذا بحسن سير الحملة الوطنية للتلقيح” ، معتبرا أن “السيادة الصحية عنصر أساسي في تحقيق الأمن الاستراتيجي للبلاد ، فقد أطلقنا مشروعا رائدا في مجال صناعة اللقاحات و الأدوية و المواد الطبية الضرورية بالمغرب” .
و للإشارة فقد سبق للعاهل المغربي ، في خطاب ألقاه بمناسبة الذكرى 43 للمسيرة الخضراء ، أن دعا الجزائر إلى تأسيس لجنة مشتركة لبحث الملفات “الخلافية” العالقة ، مبرزا أن الرباط “مستعدة للحوار المباشر و الصريح مع الجزائر الشقيقة ، لتجاوز الخلافات الظرفية و الموضوعية” ، و هي الرسالة التي كان يأمل منها فتح مسار جديد في علاقات البلدين إلا أن حكام الجزائر فضلوا تجاوز لغة العقل و المنطق و المصلحة المشتركة لفائدة حسابات ضيقة يحركها هاجس الحفاظ على الاستقرار الداخلي .
الموقف المغربي حمل أبعادا كبرى من خلال السياسة التي ينهجها في اتجاه ترسيخ الشراكة الاستراتيجية “جنوب – جنوب” القائمة على أساس أن الكل رابح ، و خلق أجواء جديدة تمكن من الانطلاق نحو المستقبل ، تحقيقا لمنافع و مصالح المجتمعات من خلال العمل المشترك ، و تجاوز حالة الجمود التي تعرفها العلاقات بين البلدين ، و بناء الاتحاد المغاربي الذي تأسس سنة 1989 دون أن يستعيد الروح المبادرة لبناء المستقبل بسبب خلافات هامشية تعطل مسار هذا البناء ، فالمطلوب هو إنشاء آلية سياسية مشتركة للحوار و إعادة الثقة و الروح إلى هاته العلاقات .
و للإشارة فالجزائر عمدت مند سنة 1994 إلى إغلاق حدودها البرية مع المغرب ، مستغلة تحميل الرباط لها مسؤولية هجمات إرهابية استهدفت مراكش ، و قرار الرباط فرض تأشيرة دخول مسبقة على الجزائريين .
و سبق للجزائر أن رفضت عدة دعوات لفتح الحدود بين البلدين ، رابطة اتخاذ القرار بتحقق ثلاث شروط حددها بيان الخارجية الجزائرية ، الصادر سنة 2013 فيما أسماه “وقف حملة التشويه التي تقودها الدوائر المغربية الرسمية و غير الرسمية ضد الجزائر ، و التعاون الصادق و الفعال و المثمر لوقف تدفق المخدرات و التهريب السري ، و احترام موقف الحكومة الجزائرية ” فيما يتعلق بمسألة الصحراء ، و إيجاد “تسوية” لها وفقا للقانون الدولي .
التعليقات مغلقة.