أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

رحيل قبل الأوان ..(2/2)


-عزيز لعويسي.


استحضارا لروح وذكرى ضحايا 16 ماي …

في الواجهة الأخرى، استيقظ الضابط “فرحان”  في يوم الذكرى السادسة للفاجعة الكبرى مع إطلالة شمس الصباح، وجسده المنهك مثقلا بالأعبـــاء وكأنه عجوز أكل عليه الظهر و شرب .. الحدث واحد “16 ماي” والذكرى ذكرتان : ذكرى تأسيس الشرطة وذكرى أحداث الدارالبيضاء الدامية .. جلس كعادته أمام التلفاز يتنقل بين القنوات الفضائية بحثا عن آخر أخبار الساعة،  احتسى كأس شاي منعنع، نعنع أفكاره الشاردة وبث الحيـــاة في صفحة وجهه الشاحب .. ترك جهاز التحكم عن بعد جانبا، ركب على صهوة جواده المتمرد، تائها بين إصطبلات  الذكــرى العابرة، باحثا عن تساؤلات متبخترة في بلاط نفسه، وكلما عثــر على الجواب المفقود، تاه مجددا في سراديب الســـؤال والسؤال .. تساءل وعلامات الأسى بادية على محياه : لماذا هاجمت “أنفلوانزا” الخنازير جسد الكلمات ؟ لماذا غزت عساكر العدم، ثكنات الربيـــــــع ؟ لماذا  رددت ترنيمة الموت بدل أنشودة الأمل والحياة ؟ …

وبينما هو محاصر بين سهام الأسئلة، رن هاتفه النقال مقتحما خلوته دون سابق إعـــــــلان، مخترقا سكناته، قال في نفسه : “الله يسمعنا أخبار الخير”، مرر أصابعه بسرعة إلى جيب سرواله وهو في حالة ارتبــاك، ضانا منه أن “المنادي” هو “العمل/ الخدمة”، حملق بدقــة في الرقم المتصل، فتنفس الصعداء، بعدما تبين له أن المنادي هو الضابط “سعدان”، وجمــــــع أفكاره المتناثرة وحرر المكالمة قائـــلا : “أهلا سي سعدان .. كيف الحال”،أجابه بقهقتـــه المعتادة : “الحمد لله أسي “فرحان” .. “عواشر مبروكة “.. وبعد أن فهم “فرحان” القصد، رد عليه بابتسامة عريضة : “الله يبارك فيك أسي سعدان” .. هل لازلت تتذكر “الجمعة السوداء” يا سعدان” .. تنهد تنهيدة عميقة وقال : “وهل تنسى تلك الأيام العصيبة التي عشناها في العمل بعد الإعلان عن حالة الاستنفـــار القصــوى …”، ضحك”فرحان” ضحكة متعالية حتى برزت أنيابه، وقال : “نحن المعذبون في الأرض .. نشقى .. نتعب .. نئن من شدة الداء، ولا أحد يقدم الدواء .. عزاؤنا أننا شموع تحترق من أجل أن تنير الطريق للآخرين”،قاطعه “سعدان” والحسرة تنبعث من أعماقه قائلا :”الله يستر.. الله يستر .. ويخرج السربيـــس على خير.. المهم إذا كان لديك الوقت عشية، اتصل بيا نديرو شي كافي “، رد عليه “فرحان” :”أوكي.. إنشاء الله نلتقي .. إلى اللقاء” .

وبينما هو يصول ويجول بين صالونات أسئلته المتناسلة كما تتناسل أخبار أنفلوانزا الخنازير، رن منبه هاتفه النقال، مخترقا الصمت الراقد في تابوت نفسه، حملق بعينيه في الساعة الحائطية، كانت الساعة تشير إلى الثامنة صباحا حسب التوقيت العالمي -موعده الخروج إلى العمل- نهض من الكرسي  عنوة، وكأنه يحمله على ظهره كيسا من الهموم والأعباء، تاركا قلمه المتمرد طريح فراش المخاض، لبس معطفه الأسود، وألقى نظرة خاطفة على المرآة، وغادر البيت في اتجاه محطة الحافلات، وقبل أن يغلق الباب لحقت به ابنته الكتكوتة “سوهاني”، وقبلت وجهه المرهق، وقالت له بكلمات لم يجد لها وصفا ولا تعبيرا: “بابا ربي عويــن”، أجابها بعيون مشرقة مفعمة بالأمل:” حتا أنت يا كتكوتة، الله يعاونك ..إيوا قراي مزيان في الروض”، قاطعت”سوهاني” كلماته بصوت أحلى من العسل:”واخا أبابا..”..

أقفل الباب، تحت قهقهات الكتكوت الصغير “أرام” التي كانت تنساب من المهد، كما تنساب نسائم العشق على القلوب الولهانة، غادر البيت وكلمات “سوهاني” تتردد في مسمعه كهمسات دافئة تجعله يتنفس ويحيى رغم حمى الآهات المستدامة .. ابتسامة الكتكوت  “أرم” تجعله يتوق إلى شمس الصباح رغم الأنين والنواح .. وهو يخترق الشارع المؤدي إلى محطة الحافلات، بخطوات موزونة كأنه في ساحة الشرف .. عادت به الذاكرة من جديد إلى “تسونامي 16 ماي 2003″وما خلفه من كوابيس مزعجة لاتزال منقوشة كالوشم على جدار الزمن الهارب .. أجساد محترقة بلهب العدم.. قلوب مكتوية .. وجوه شاحبة .. عيون شاردة .. سواعد مكسرة .. آهات وصرخات .. نظرات وعبرات ..

وصل إلى الحافلة، فوجدها مستوقفة وكأنها في انتظاره .. كانت شبه مملوءة عن آخرها كما لو كانت علبة سردين .. صعد إليها بصعوبة عبر الباب الخلفي وحملق يمينا وشمالا، فإذا به يلمح مقعدا فارغا في الركن الخلفي .. قصده مخترقا  الأقدام المتراصة وأخذ مكانه متمنيا أن تمر الرحلة الاعتيادية بسلام .. بعد هنيهة تحركت عجلات الحافلة مخترقة شارع المقاومة، كما لو كانت سفينة تشق البحار الهائجة، وبمجرد وصولها إلى مستوى محطة القطار بشارع الحسن الثاني، حتى صارت “حماما” متنقلا بامتياز، “الواقف” أكثر من”الجالس”.. أجساد مكدسة ككباش العيد .. وجوه شاحبة ..عيون شاردة .. وحده “الروسوفور” يخترق الطابور ذهابا وإيابا، مرددا بصوت تتقاطع فيه إيقاعات الحسرة والإحباط : “شكون لي مازال ما خلص .. زيدو شوية لقدام (الأمام) ..”..

وسط الزحام ينبعث صوت امرأة متسولة في عقدها الرابع ..شاحبة الوجه.. عيناها السوداويين تحملان أكثر من علامات استفهام .. طويلة القامة .. “غليظة” الشكل .. ترتدي جلبابا “متسخا” وتضع على رأسها الذي اكتسحته طلائع الشيب “فولارا” متآكلا .. بطريقتها المألوفة، وزعت “وريقات صغيرة” كتب عليها : “إخواني المسلمين، أنا متزوجة ولي أربعة أطفال، وزوجي مريــض، وأكتري منزلا ب 700 درهما.. أرجوكم ساعدوني والله لا يضيع أجر المحسنيــن “.. وبعد أن أكملت توزيع الوريقات، عادت إلى مقدمة الحافلة .. وقامت باسترجاعها من الركاب الواحد تلوى الآخر، مخترقة حالة الازدحام بجسدها الغليظ، وبين الفينة والأخرى كانت تردد بصوت متعال أقرب إلى البكــاء :” شكون لي يعاوني في سبيل الله .. شكون لي شاف بعينو وحن بقلبو” .. بجانب الضابط “فرحان” كانت تجلس امرأة تجاوزت عقدها السادس، التفتت إلى مرافقتها وقالت لها بصوت خافت : ” تمشي دير ليها شي مسمنات أو تبيعهوم فالجوطية .. راها صح من العود “..

أكملت السيدة المتسولة جمع وريقاتها، وخيبة الأمل بادية على محياها، ونزلت من الحافلة بخفي حنين .. التفت إليها “فرحان” من النافذة، كانت تهرول في اتجاه حافلة أخــــرى مستوقفة، على أمل الظفر ببعض الدراهم ..

أكملت الحافلة طريقها مخترقة الطريق الساحلية .. وبوصولها إلى مستوى المدارة الطرقية المؤدية إلى المرسىى عبر الباب 4 .. كانت الحافلة، قد لفضت معظم الركاب في المحطات المتعاقبة، كما يلفض البحر الثائر جثت الغرقى .. فتحرك النسيم القادم من المرسىى.. حينها غا در الضابط “فرحان” مقعده الدافئ، ونزل على مستوى مقر “كومناف”، في وقت أكملت فيه الحافلة طريقها في اتجاه محطة النهاية بسيدي بليوط .. مباشرة بعد النزول، اعترض سبيله شخص “متشرد” فعل فيه الفقر فعلته .. يرتدي جلبابا متآكلا، حافي القدمين، يبدو من وجهه الشاحب أنه ينحدر من “سوس”، يحمل كيسا على ظهره المقوس .. شعره تدلى على كتفيه، كما لو كان امرأة وما هو بامرأة .. قال له بنظرات عميقة تحمل أكثر من علامة استفهام : “عرفتي شنو قاصح في الدنيا”.. قال له “فرحان”: شنو ..”، أجابه بحكمة بالغة : “الجوع والعطش .. الجوع والعطش .. الجوع والعطش” وانصرف إلى وجهة غير معلومة، دون أن يطلب شيئا .. واصل “فرحان” طريقه نحو “الباب 3”. وعلامات الحيرة والاستغراب بادية على محياه، جراء ما قاله “البوهالي”.. تنهد تنهيدة قاتلة حاملة لكل مشاعر الحسرة والألم : “الله يخرج العاقبة على خير .. الله يخرج العاقبة على خير” .. ولج كعادته إلى “المرسى” عبر الباب3، متمنيا أن يمر اليوم بسلام ، حينها سؤال وحيد كان يتردد في نفسه كالصدى .. كيف يمكن استئصال أشواك  “العدمية” و”العبث” و”الظلام”..؟؟.

التعليقات مغلقة.