وكأن آية التعامل بين المسلمين وتحمل بعضهم لبعض وتقدير ظروفهم وأحوالهم قد انقلبت في حياتنا المعاصرة، وفتحت الأبواب على مصراعيها لكل ما هب ودب من سلوكات القسوة والغلظة والفظاظة.. العنف والتشدد والاحتقار المتبادل.. رداءة الخدمات وسوء المعاملات.. وهضم الحقوق والواجبات، آباء يهملون أبنائهم وأبناء يعقون آبائهم.. أساتذة يعنفون تلاميذهم وتلاميذ يتمردون على كل قيمهم وتعلماتهم ويختارون لحياتهم ما لا يدرس في مدارسهم.. إداريون يرهنون المرتفقين بسلوكات مقلقة غير إدارية ولا قانونية.. ومسؤولون يلهبون حياة المواطن بأسعار ملتهبة ولا يبالون بضعفه وشكواه ولا حتى بتظاهره واحتجاجه، تماما على عكس قوله تعالى في وصف الحال بين أتباع رسول الله: “محمد رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ، تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ”، الفتح/29.
إن سلوك الغلظة والفظاظة والقسوة وجفاء الطبع..، ينفر القلوب وتتأفف منه النفوس ويقطع الفهم والتواصل فتفشل الأعمال وتستحيل العشرة وتتفرق الجماعة وجدانيا وعمليا، إلا في ما كان من الإجبار والاكراه الذي لا ظهرا يبقي ولا أرضا يقطع، قال تعالى:” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ”، آل عمران/159؛ وقال تعالى: “وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ، إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا”، الإسراء/53.
هكذا الدين الإسلامي يحرص أشد الحرص على خلق الرحمة والرأفة والمودة والليونة وخفض الجناح ويربي عليها أبناءه في العديد من الآيات والأحاديث ومواقف السيرة النبوية الشريفة، قال تعالى: “لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ”، التوبة/128. وقال في أتباع الأنبياء: “وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا” الحديد/27.
وفي الحديث: “الراحمون يرحمهم الرحمان” و “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”؛ وفي الأنصار والمهاجرين قال: “يودونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ”، الحشر/9.
فما معنى أن تكون رحيما بالخلق وتتصف بخلق الرحمان وعباد الرحمان، فردا كنت أو جماعة؟، ولماذا اضطرب خلق الرأفة والرحمة في حياتنا المعاصرة؟، ماذا خسرنا بخسرانه؟، وكيف يمكننا استرجاعه حتى يتبوأ المكانة اللائقة به نقيا متألقا؟.
يقول الفقهاء، أن تكون رحيما معناه أن تكون متواضعا في شخصك.. خلوقا في طبعك.. لين الجناح.. طيب الكلام.. خدوما لغيرك. ناصرا لقضايا المسلمين.. ولغيرها من القضايا الإنسانية العادلة.. لا تبغي في ذلك إلا وجه الله والدار الآخرة. أن ترحم الخلائق معناه أن تشعر نفسك والآخرين بالحب والتقدير والدفيء العاطفي والشعور بالأمان في الانتماء إلى هذا الدين الذي يقوم مقام الأسرة والقبيلة وغيرها من الطوائف والمذاهب والمرجعيات؟.
من يرحم ويتودد، هو من يكون من عادته الدائمة وعبادته الخالصة مهارة سلوك اليقظة والاهتمام.. المواساة والعناية.. الأسرة والعمل.. التخفيف والمساعدة.. النصيحة والإرشاد.. قبول الأعذار والتماسها.. السؤال عبر الأيام وصلة الأرحام.. الدعاء والاستغفار.. البساطة والمودة والابتسامة..، ففي الحديث: “المؤمن لين هين إلف مألوف ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف”.
وفي الحديث: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”، رواه البخاري؛ وفي حديث الخدمات: “من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا..”؛ وفي حديث الصدقات: “كل سلامى ابن آدم عليه صدقة..”، إلى غير ذلك مما يقطع دابر الجفاء والغلظة والفظاظة والقسوة في حياة المسلمين، وهي كما يقول التواصليون تمثل إلى 85% من أسباب نجاح أو فشل العلاقات والأعمال؟.
غير أن هذه الرحمة لا تنبت ولا تزدهر ولا تبقى سارية المفعول شمولية الشيوع إلا في بيئة تربوية أخوية، لا بيئة متطرفة قاسية عنيفة، بمعنى من المعاني تنفي الآخر ولا تقبل بالتعايش معه، ولا أية بيئة ذات قيم مادية أنانية استهلاكية أو حتى قانونية حقوقية محضة، وإلا فحتى الدول المتقدمة لا زالت لديها فئات عريضة من المحرومين المقهورين يعيشون مع حاويات القمامة ويبيتون معها في الشوارع كالقطط المتشردة والكلاب الضالة؟.
ولا شك أن رمضان شهر الرحمة والمغفرة إذا أحسنا التدبر والاستيعاب والغرف والانجذاب.. فمن رحمات رمضان الطيبة المباركة أنه شهر تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب جهنم، وتصفد الشياطين، شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.. شهر الصيام والقيام والتقوى والدعاء والاستجابة.. شهر الصبر والصدق والإخلاص ومضاعفة أجر العاملين المحتسبين.. شهر رفع المشقة عمن يطيقونه بما أباحه لهم من الإفطار والقضاء أو الفدية أو الإفطار دون قضاء ولا فدية لصنف منهم.. شهر تيسير العبادات وفتح المساجد والعناية بها.. شهر رأفة الأغنياء بالفقراء.. بإطعامهم.. إفطارهم.. صلتهم وكسوتهم والإحساس بهم.. شهر الجوائز من الله لعباده الصابرين بعد أداء زكاة فطرهم وصلاة عيدهم وصلة أرحامهم.. شهر.. شهر.. شهر.. وصدق رسول الله إذ قال: ” كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ” رواه البخاري ومسلم.
غير أن قيمة الرحمة وسلوك التراحم لعظمته وجلاله تطرح بموجبه الأسئلة تلو الأسئلة، لعل أهمها كما يقول د.راغب السرجاني صاحب كتاب “رحماء بينهم”، وإن ركز فيه على العمل الخيري التطوعي الإغاثي، فهو من أوسع أبواب الرحمة الضرورية، والسؤال كيف يمكن ان ننتقل بقيمة هذه الرحمة وغيرها في المجتمع الإسلامي من مجرد الجهود الفردية وبعض التربية الأسرية أو حتى المساعي المدنية على أهميتها وخيريتها وبركتها، إلى سياسة عمومية للدولة والمجتمع.. تلزم الجميع ويلتزم بها الجميع.. رؤية ومخططات ومبادرات وتفعيل برامج؟، فكيف هي الرحمة في التاريخ الإسلامي من خلال سيرة المصطفى (ص) ومواقف الصحابة؟، من هم المحتاجون إلى الرحمة في الأمة وكيف نضمن كرامتهم.. وننقذهم من الفقر والمرض والجهل والانحراف وغيرها من الأمراض الاجتماعية الفتاكة؟.. الفقراء والمساكين.. الغارمين وابن السبيل.. طالب العلم والمقبل على الزواج.. الأقارب والجيران المحتاجين.. الأيتام وذوي الاحتياجات.. المنحرفون والمدمنون المعالجون.. المطلقات والأرامل.. الشيوخ والعجزة..؟، كيف يمكنهم الاستفادة من تنظيم الزكاة والصدقات والميزانيات والوقف والإرث والوصية والإطعاموالشراكات والتبرعات..؟،
جهود الدولة في العمل الاجتماعي والتضامني بين الموجود والمفقود.. الأزمات والنكبات.. التشريعات والتدخلات.. المناطق والفئات.. الأولويات والمعايير والمؤشرات.. التنمية البشرية والتكوينات؟، أين الرحمة بين المجال العلمي والإداري كتنظيم الإدارة ونجاعة المؤسسة وتحديد المهام والتخصص والتكوين والإبداع.. المجال المادي والإعلامي بما في ذلك التحسيس والتوعية وتعبئة الموارد المالية ورد الشبهات وعرض الميزانيات بكل شفافية وحكامة.. خلق الرأي العام والحملات التراحمية بين الحقوقي والإنصافي والتعاوني التضامني.. التنسيق مع الآخرين، دولا وهيئات وفاعلين والاستفادة من تجاربهم الموفقة لإقامة الدولة الاجتماعية المتراحمة قولا وفعلا عبر الزمان والمكان، والتي هي أس وأساس كل شيء، ليس في العمل الاجتماعي فحسب، بل في كل مجالات التراحم السياسي والاقتصادي والتربوي والثقافي والبئي والفني والرياضي.. وما أكثرها وكلها تحتاج إلى هذا التوجيه الرباني التآلفي الأمني والتنموي الصميم “رحماء بينهم”، عليه نضعها وبه ننجزها ونحكمها وفي ظلاله نقيمها ونطورها.. والله المستعان؟.
التعليقات مغلقة.