طقوس نهاية السنة الفلاحية بقبائل “ايت واوزكيت” قديما
الباحث الحسن اعبا
تأخذ علاقة الفلاح بالأرض طابعا سحريا في المجتمعات التقليدية حيث لم يَزُل بعدُ سحر العالم (Le désenchantement du monde) جرّاء بساطة الأدوات التقنية وعدم تقدم معرفة الإنسان بالقوانين الموضوعية للظواهر الطبيعية، ويظهر الطابع السحري لعلاقة الفلاح التقليدي بالأرض على مستوى التعاطي لطقوس فلاحية بطريقة دورية تبعا ليومية فلاحية محددة، حيث نجد زمنا خاصا بالطقوس في عدة مراحل من عملية الإنتاج الفلاحي موازاة مع الزمن العادي.
ويتولد عن عدم مراعاة الزمن الطقوسي، في الثقافة التقليدية، الإخفاق في الحصول على البركة (1) التي تنم عن وفرة في النوع الكيفي السحري، طالما أن كمية المحصول لا تتوقف على المجهود المبذول والمعقلن، أي الحساب؛ بل باحترام زمن إنجاز الطقوس وكيفية أدائها التي تجعل المحصول وفيرا بما يمكن من تحقيق الأمن الغذائي والكفاية.
ومن مظاهر العمل على توفير شروط البركة نجد “طابو الحساب أو العد” و”طابو الكلام الذي ينم عن التذمر”.
فالعدّ أو التذمر شفويا يصيب، كما يعتقد الفلاح التقليدي، المحصول بالعين الشريرة Aresvaf، ويصبح عديم البركة ولو كان المحصول مهما من الناحية الكمية؛ فمن له ثروة من الأراضي والقطعان التي تتطلب عملا شاقا بتعبئة كل أعضاء الأسرة لا يجب عليه استعمال لفظة “تامارا”، أي الشقاء، بل لفظة “ءيخيتّان” Ixittan بمعنى المجهودات Efforts؛ إذ يعتقد أن نطق اللفظة الأولى يؤدي إلى ذهاب البركة وإصابة المحصول بـ”رْبا”؛ بمعنى كثرته كميا لكن دون فائدة كيفية، إذ مهما حرص رب الأسرة على عقلنة استهلاكه إلا ووجد المحصول الكثير ظاهريا لا يحقق الإشباع ولا الكفاية.
ومن أشكال “طابو الكلام” استعمال لفظة “لْخير” (2) لوصف المحصول أو الوجبة الغذائية، رغم فقرها كميا وحسابيا، كأن الكلمة الطيبة في حد ذاتها قادرة على تعويض الفرق بين الواقع فعلا والمأمول، خصوصا أن آداب المائدة تقتضي بوادي دادس أن يأكل الإنسان بعينيه وليس بكرشه، إذ النوع الأخير من الأكل، أي بنهم، هو أكل الحيوانات.
إذا كانت التربية التقليدية ترفض منطق الحساب وكلام التذمر وتحذر من المسخ في حالة إساءة استعمال “النعمة” للحفاظ على دوام بركة المنتوج؛ فإن الفلاح التقليدي كان يلجأ إلى الطقوس كعامل من عوامل الإنتاج المعنوية وكضامن لنجاح مجهوداته منذ بداية عملية الحرث إلى الحصاد والدرس وتخزين المنتوج.
فعملية الحرث لا تبدأ لمجرد حلول فصل الخريف، بل يجب عدم رمي البذور في الحقل إلا بعد قيام أرباب أسر بعينها بالعملية في حقولهم، أو تكليف أحد ذكور الأسرة ولو كان صغيرا للقيام برمي البذور، أو الإذن لبقية أرباب الأسر ببداية الحرث.
ويصل الأمر في بعض الأحيان إلى حصر العملية في شخص ذكر بعينه عليه للقيام برمي البذور الأولى لكل أسر القرية، وغالبا ما يكون هذا الرجل (3) منحدرا من العشيرة الأصلية بالقرية، أي ليس من الطارئين الغرباء.
مثلما أن للبداية طقوسها، فإن للنهاية بدورها طقوسها التي تحفظ للمحصول بركته أو قوة الإشباع الكامنة فيه والتي تصاب بـ”رْبا” في حالة العد أو التذمر.
ومن أنواع الطقوس المرعية سابقا بوادي دادس بإقليم ورزازات، نجد طقسين اثنين؛ الأول يتمحور حول إدخال المحصول إلى غرفة التخزين؛ فيما الثاني هو نوع من الإنهاء الرسمي للسنة الفلاحية بعد جمع المحصول.
إدخال المحصول إلى غرفة التخزين
قبل بداية عملية الدرس Arewa، يتم إصلاح البيدر من الآفات التي تعرض لها جراء عوامل المناخ بتبليطه وكنسه من الأوساخ. وهاته العمليات تقنية محضة. كما يتم إخبار نساء القرية القريبات والصديقات بالقرى المجاورة اللواتي سيساعدن نساء الأسرة في عملية الحصاد Tamegwera، فيما يتم إخبار الرجال الذين سيساعدون في عملية الدرس، كما يتم إخبار أصحاب الدواب، في حال موافقتهم، بيوم الدرس حتى لا يُقرضوها لأرباب الأسر أخرى (4).
عندما تحصد النساء الحبوب، يتم وضعها في البيدر؛ وحينما تصل الواحدة منهن بحمولتها Tizdemt إلى البيدر تطلق ثلاثة زغاريد قبل وضع الحمولة في البيدر، قائلة: “استعد يا بيدري، استعد للخير” (5).
وحينما تيبس الحبوب العالقة بالتبن بالبيدر يتم القيام بعملية الدرس (6)، هاته العملية تبدأ في يوم معين ببعض القرى.
إن عملية الدرس ليست مجرد إجراءات تقنية، بقدر ما هي لحظة احتفالية تتجلى في ترديد الأشعار.
كما يجسد الحضورُ المكانة الاجتماعية لرب الأسرة ونوعية الأصدقاء والزبناء، مثلما تحضر الممارسات الطقوسية التي تعكس الذهنية الفلاحية التقليدية الماقبل ـ رأسمالية حيث للماورائي دور في عملية الإنتاج والحفاظ على بركة المنتوج.
ومن الطقوس التي تتم لحظة الدرس بالبيدر قبل الدورة الأخيرة لبهائم الدرس ضرب عمود Tagejdit وسط البيدر بقطعة من الملح الصخري Tidderet ثم يتم وقف العملية بإزالة وثاق الدواب.
ويمكن قراءة هذا الطقس كعلامة على توقف انتماء المحصول إلى عالم الطبيعة واللامرئي ودخوله علام الثقافة والاستهالك الاجتماعي. طالما أن الملح هو الحد الفاصل بين أكل الجن (7) وأكل البشر، فكأن هذا التصرف يعمل على الحيلولة دون سرقة الكائنات اللامرئة للمنتوج إن ظل غير مملَّح مما يؤثر على بركته.
وعند تجميع الحبوب بعد تذرية التبن عنها، أي ما يسمى بـ”Tirect”، توضع فوقها حزمة من النبات أو العشب مثل “الحرمل” أو “الفضة” حسب السائد في القرية، رغبة في أن تكون البلاد خضراء، وبلغة إحدى المخبرات “Ad teg tamaziret tazizawet”، وهو ضرب من التفاؤل.
أما على مستوى القراءة/التأويل، فهذا السلوك يهدف إلى الحيلولة دون العين الشريرة من خلال جاذبية النبتة التي تزيح الكلام السلبي أو تحصر مجال الرائي في جهة من المحصول، مما يفقده التركيز على الكل.
كما يتم لحظة جمع “تيرشت” إزالة كومة صغيرة من الحبوب المدروسة تسمى “تابلعبّاست” (9) تعطى لأول قادم من المتسولين أو توزع على الأطفال الحاضرين من غير أبناء الأسرة، لهذا كان الأطفال يترصدون كل من يدرس لأخذ نصيبهم. وفي هذا التصرف نوع من التربية على الأنشطة المحلية.
بعد إزالة “تابلعبّاست”، يتم فصل الأعشار عن المحصول الموجه للمخزن الأسري في البيدر. وتوزع الأعشار إلى ثلاثة مجموعات، إحداها لفقيه القرية تبعا لما يقتضيه “شّرضْ”، والثانية للورثة (Imekusa)، أي أبناء العمومة ولو كانوا في غير حاجة لوجود حقول لديهم (10)، والثالثة للفقراء والمتسولين.
أما فترة حمل المحصول بعد إزالة الأعشار فهي لحظة صلاة العصر أو ما بعدها، إذ يتم النصح بأن يكون الطقس معتدلا، والسبب هو تجنب إصابة الحبوب بحشرة “أكوز” Akuz التي تفسده وتلتهم جزءا منه.
ويمكن القول، كنوع من التفسير، أن حصر فترة إدخال المخزون بلحظة العصر هو بداية اليوم الجديد بعمل استثنائي تخصص له كل المجهودات، طالما أن نوبة الماء Tiremet تبدأ بعد أذان صلاة العصر مباشرة، أي أن محدد اليوم الزراعي ليس هو بزوغ الشمس، بل وصول نوبة الماء، مثلما أن دخول الحبوب الجديدة إلى المنزل هو بداية دورة جديدة من الاستهلاك (11).
مثلما أن درس المحصول يخضع لبعض الطقوس، فإن إدخاله إلى المنزل، وبالضبط غرفة التخزين، Ahanu يتم تبعا لممارسات طقوسية.
عندما تصل حمولة الحبوب إلى باب غرفة التخزين يمنع على الإناث دخولها نهائيا، إذ يتسلم رب الأسرة الحمولة على الباب ويقوم بوضعها بزاوية من غرفة التخزين بمعزل عما تبقى من محصول السنة الماضية. ويكون رب الأسرة حافي القدمين، أي غير لابس للأحذية.
وحتى في الأيام العادية يمنع ـ نظريا ـ على غير حامل المفتاح Butesarut، وهو في الغالب رب الأسرة، ولوج غرفة التخزين إلا وهو حافي القدمين.
علما أنه يفهم من الروايات الشفوية أن الدخول إلى غرفة التخزين مقصور على رب الأسرة، لهذا يقال “لا يلج غرفة التخزين إلا أربعة عيون: عيني صاحب المفتاح، وعيني القط” (12).
بعد الانتهاء من عملية إدخال الحبوب إلى غرفة التخزين، توضع قطعة الملح الصخري بين الحبوب، كما يتم تبخير عرفة المؤونة وتغلق ثلاثة أيام (13)؛ والإغلاق يتم بعد عزل كمية الحبوب الضرورية للاستهلاك في الأيام الثلاثة بوضعها خارج المخزن.
وعند إغلاق المخزن يقال ما ترجمته: “بها (أي غرفة التخزين) بركة الله وستره وملائكته” (14).
ويمكن القول إن رمزية الدخول بدون أحذية إلى غرفة التخزين هو الحيلولة دون وضع الأحذية على المحصول الذي يعني عدم احترام “النعمة” أو العطاء الإلهي، وينذر بفقدان البركة. ونفس المعطى فيما يخص منع غير حامل المفتاح من ولوج الغرفة، إذ عين الغير قد تفقد المحصول بركته، بمعنى قدرته السحرية على الإشباع وتحقيق الكفاية ولو كان قليلا، مثلما أنه مظهر للسلطة الذكورية على صعيد تدبير المخزون الأسري، ووسيلة للحيلولة دون وقوع سرقات قد يقوم بها أحد الداخلين استجابة لرغبة شخصية.
إنهاء السنة الفلاحية بتحضير ”أغروم ن وورفان“
التعليقات مغلقة.