أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

الشهيد “عباس المساعدي” في ذاكرة مثلث الموت بريف “تازة”

عبد السلام انويكًة

 

 

 

 

 

 

شامخ هو ماضي ذاكرة مغرب أمس الوطني، ومن خلال هذا الماضي القريب. ذاكرة ومجد قبائل طبعتها أحداث فاصلة سنوات استقلال البلاد الحرجة. قبائل هنا وهناك تحفظ أثر. وصدى رجالات كانت بوقع وبطولة وتضحيات.

 

 

 

 

 

 

ولعل من قبائل مغرب القرن الماضي زمن الحماية. والتي كانت بصمود وكفاح وطني نموذجي من أجل الاستقلال، نجد قبيلة “كزناية” ب”تازة”. التي اشتهرت ب “مثلث الموت” حيث جبال “بورد”، “أكنول” و”تزي وسلي”. المجال الذي جعلته طبيعته وجهة لإعداد وانطلاق عمليات جيش التحرير. حيث هوية وخصوصية إنسان ومناعة واستراتيجية ممرات. حيث اعتبرت جزءا من سلاح مقاومة ونقط قوة ما خاضته القبيلة من معارك معتمدة على حرب عصابات. دون نسيان أهمية تماس تراب “كزناية” بمنطقة نفوذ “إسباني” كان بأثر داعم عبر ما سمح به من حركة قيادات وفعل إيواء وتوفير ذخيرة. فضلا عما كان لها من تجربة حربية سابقة بريف المغرب منذ عقد الحماية حتى سنة 1926. ومن إيمان روحي عفوي دفاعا عن بلاد وعباد.

سياق نسجل فيه ما كان ل”محمد بن عبد الكريم الخطابي” من دور ريادي منذ نزوله ب”مصر” بعد فترة نفي بجزيرة “لارينيون”. حيث بدأت تحركاته من أجل تحرير الشعوب المغاربية من الاستعمار. وهو ما تجسد في إعلان “القاهرة” خلال يناير 1948. وفي ميلاد “لجنة تحرير المغرب العربي” التي انتخب رئيسا دائما لها. والتي من بنود ميثاقها إنهاء الاستعمار عبر العمل المسلح. ما عملت خلايا جيش التحرير على نشره والتعبئة له. فضلا عن استقطاب من سبق لهم حمل السلاح من الرجال خطواته، بكل سرية وكتمان واخلاص.

ولعل من رجالات ذاكرة قبيلة “كزناية” الوطنية التي كانت بدور هام مؤطر في ملحمة انطلاق عمليات جيش التحرير بها. مطلع أكتوبر سنة 1955. الشهيد “عباس المساعدي” الذي حل بالناظور، شهر يوليوز من نفس السنة. بعد أربع سنوات من تأسيس حركة مسلحة بالريف. وقد نجح في تعميق علاقاته واتصالاته لإبراز ما كان ينشده من طموح عسكري وطني. لم يتمكن من بلورته ب”الدار البيضاء” وغيرها من المدن. حيث وجد ضالته في قبيلة “كزناية” لِما كانت عليه من استعداد لمقاومة المستعمر. وما انخرطت فيه من خلايا بمداشرها.

وقد أبان عن قدرة قيادية توجيهية ترابية عالية بالمنطقة وحِرْصٍ على حماية مجاله الحيوي بها. مع أهمية الإشارة لِما كانت تعاني منه القبيلة، منذ مطلع خمسينات القرن الماضي. من ضغط شديد وإرهاب واستفزاز استعماري كبير وحصار من كل الجوانب. بحيث لم يكن يسمح لأي فرد موسوم بالوطنية بمغادرتها. وإذا ثبت ذلك دون إذن من قبطان الدائرة كان يتم الرمي به في السجن والنفي والتشريد.

و”عباس” الذي عشق قبيلة “كزناية” حتى النخاع. وقد احتضنته منذ انطلاق عمليات جيش التحرير. هو “عبد الله المساعدي” نسبة لأسرته، أسرة الولي الصالح “سيدي مسعاد” ب”تازارين” بقبيلة “آيت عطا” جنوب البلاد. حيث “زاكورة” مسقط رأسه، في عشرينات القرن الماضي.

و”عباس” اسم سري اشتهر به فقط. وارتبط بميدان المقاومة وجيش التحرير. وقد عُرف به وسط مركز جيش التحرير الأساسي بالناظور سنة 1955.

وبحسب إفادة مذكرات قادة جيش التحرير بقبيلة “كزناية” عن الرجل. فقد انتقل من بلدته لبلدة “مولاي بوعزة”، ناحية “والماس”. حيث كان والده فقيها بها. ومنها التحق ب”الدار البيضاء” ليبدأ نشاطه وكفاحه الوطني في المجالين النقابي والسياسي. حيث بدأ هناك بتأسيس خلايا للمقاومة السرية رفقة عدد من الوطنيين منذ سنة 1953، تاريخ نفي السلطان “محمد بن يوسف”. قبل إلقاء القبض عليه خلال نفس السنة والحكم عليه بسنة حبسا نافذا من قِبل السلطات الفرنسية.

وبعد خروجه من السجن التحق بالقيادة الرابعة للمقاومة السرية بنفس المدينة. وذلك بتوصية من الشهيد “محمد الزرقطوني”. قناعة منه بما كان يتميز به من صبر وثبات وكتمان سر مهما كانت الظروف وكلفته الصعاب. وهكذا بعد سنتين، وبعد اكتشاف أمره وأمر عدد من المقاومين البارزين الآخرين خوفا من الاعتقال. التحق بمدينة تطوان سنة 1955. قبل أن يشد رحاله صيف نفس السنة صوب “الناظور”. ملتحقا بمركز جيش التحرير الأساسي، ليتم تكليفه بتنظيم فرق جيش التحرير عن القبائل التي كانت خاضعة لمنطقة النفوذ الفرنسي. وذلك في تماس مع منطقة النفوذ الاسباني (المنطقة الخليفية).

وقد نجح في مهمته لِما كان عليه من خبرة تدريب على حرب العصابات. وهو ما جعله بقدر كبير من التوجيه والتعبئة التاكتيكة الميدانية التي منها قوله حول الحاجة للسلاح. كونه يوجد بحوزة العدو (الاستعمار) وفي ثكناته. ويسجل ل”عباس” أنه هو من أنشأ قيادة جيش التحرير ب”الناظور” ربيع سنة 1955، رفقة “عبد الله الصنهاجي”، “صفي الدين”، “سعيد بونعيلات” و”الحسين برادة”. وأنه منذ هذا التاريخ والاتصال جار لتعبئة قبيلة “كزناية” شمال “تازة”، استعدادا لانطلاق العمليات العسكرية من أجل استقلال البلاد.

حول المقاومة المغربية وجيش التحرير بجبال “كزناية”، أورد عبد السلام الذهبي في يومياته: أن أول اتصال له بالشهيد “عباس” كان بمنطقة “ثلاثاء أزلاف”. وأنه فرح فرحا عظيما عندما رآه وبيده رشاشة. وقد أخذها منه وبدأ يفتشها وهو يراقبه. وأنه بعد حديث بينهما ذهبا معا إلى “الناظور” ليلتقيا ب”عبد الله الصنهاجي”. قبل بداية تدريب المتطوعين على حرب العصابات في مركز خاص كان يشرف عليه “عباس” و”الصنهاجي”.

وعن “عباس المساعدي”، ورد أنه في إطار ميثاق بين المغاربة والجزائريين في شأن حركة التحرير والعمل الوطني. أنه قد التحق بمجموعة “الناظور” كل من “العربي المهيدي” و”محمد بوضياف”. وأن هذا الميثاق انبثقت عنه لجنة تنسيق تخص جيش التحرير بالمغرب العربي. وقد تكونت من المقاومان الجزائريان السابق ذكرهما. ومن “عبد الله الصنهاجي” و”عباس المساعدي” الذي انتخب كاتبا لها. وأنه بعد هذا الإجراء التنظيمي تم فتح مدرسة/مركز لتكوين أطر جيش التحرير ب”الناظور” للتدريب. وقد تم تكليف كل من “العربي المهيدي” عن الجزائر. و”عباس المساعدي” عن المغرب بهذه المهمة. وأن هذا الأخير كان ممن حضر عملية إفراغ حمولة سفينة “النصر” من الأسلحة بشاطئ “كبدانة” بالناظور. عن قادة المقاومة المؤسسين لجيش التحرير وعن لجنة التنسيق. وعن السلاح وذخيرة القتال وما بلغ منه لقبيلة “كزناية”. ونظرا لِما كان عليه من كارزما وكلمة مسموعة، فقد كان “عباس” من أشرف على توزيعه بالمكان المسمى”الهرهار”، بين منطقة النفوذ الاسباني والنفوذ الفرنسي بالمغرب. وهو السلاح الذي تم به الهجوم على مركز “بورد” و”تزي وسلي”. وكان يزور منطقة “كزناية” بعد انطلاق عمليات جيش التحرير. وما حصل من هجوم على مركز “بورد”، “بوزينب” و”تداس” وغيرها. متفقدا المقاومين بالجبهات وسير العمليات. مقدما توجيهاته ومحفزا من أجل كل حماس وثبات في مواجهة القوات الاستعمارية.

وعن “عباس” القيادي الميداني الذي ارتبط بقبيلة “كزناية”، خلال هذه الفترة الفاصلة من زمن مغرب الحماية. وقبل اندلاع عمليات جيش التحرير بالنقاط المحددة والمعنية بالهجومات، ومنها “أكنول”، “بورد” و”تزي وسلي”. فضلا عن “ايموزار مرموشة”، “بركين”، “تاهلة”، “تافوغالت”، “صاكا”،  “مزكيتام” و”بني بويحيى”….

وحول ما كان من هواجس في هذه الظرفية الصعبة والحاسمة. أورد “الصنهاجي” في مذكراته: أنه قضى ليلة بيضاء في مركز القيادة ب”الناظور” رفقة “عباس”، (27 شتنبر 1955). تقاسم فيها سبل حل ما هناك من مشاكل ميدانية منها حاجة القادة للمال. وأنه بعدما أصاب “عباس” من تعب ذهب للنوم. وأنه بعد وقت قصير جاء إليه وقال له: “فهمت منك أنه لم يبق لك شيء من المال”. وقد أجابه “الصنهاجي” “نعم”. فقال له “اذن نحن قادمون على ارتكاب جريمة لا تغتفر في التاريخ. اذا دفعنا بفئة قليلة من الرجال الوطنيين الأحرار إلى معركة وليس لديهم سوى قطع قليلة من السلاح والذخيرة.. لا تكفي لمعركة ثلاثة أيام… فأجابه “الصنهاجي”: “الأمل في الله يا أخي والشعب”. فكان رد “عباس”: “إنما قلته صحيح، لكنك نسيت بأن الأسلحة والذخيرة القليلة التي سيهاجم بها رجالنا. اعتبرناها مجرد مفاتيح وضعناها بين أيديهم ليأخذوا بها السلاح الآخر من خزائن الجيش الفرنسي ومن جنوده. أنسيت أن الشعب المغربي التواق للاستقلال سنجده واقفا إلى جانبنا بالمال والرجال عندما يسمع بانطلاقتنا في الحرب التحريرية. كما سنجد بجانبنا الجنود المغاربة الأحرار في الجيش الفرنسي من الذين سيلتحقون بصفوفنا دون شك”.

بعض من ذاكرة قبيلة “كزناية” الوطنية وعلاقتها بالشهيد “المساعدي”، أحد رموز ملحمة 2 أكتوبر 1955. في ذكرى اختطافه واغتياله الثامنة والستين. ولعل ما كانت عليه “كزناية”/مثلث الموت. من صور بطولات كتبت بدماء زكية رفقة هذا الأخير رحمه الله. جزء من تجليات مواجهة الشعب المغربي للاحتلال الاستعماري من اجل الاستقلال. علما أن تاريخ مقاومة قبيلة “كزناية” وملحمة الاستقلال. هو تاريخ واسع حافل بما هو محلي من هوية ومعاني وأحداث ووقائع ورجالات…. تاريخ لا زال بحاجة لمزيد من عناية رصينة ودراسة مؤسسة، لكشف وفهم ما لا يزال مغمورا منه تنويرا للناشئة. ونعتقد أنه ليس سهلا ولا موضوعيا تتبع ما شهدته “كزناية” من مقاومة مسلحة. وما حصل إثر انطلاق عمليات جيش التحرير بها في مغرب خمسينات القرن الماضي. دون تتبع بصمات رجالاتها إن خلال عمل التأسيس أو ما طبع الميدان لاحقا. علما أن لكل منطقة خصوصيتها. وأن ضمن هذا التباين الثقافي والجغرافي والخصوصية، تبلور ما تبلور من وعي وقناعة انتفاض ضد المستعمر. وذلك عبر حس وطني جماعي من أجل الاستقلال.

وعليه، فإن أهمية كتابة تاريخ قبيلة “كزناية” الوطني، أو إعادة كتابته. مع كل تفكير ووثائق وأرشيف جديد. تقتضي اعتبار ما هناك من هوية وبيئة محلية. فضلا عن لحظات فاصلة طبعها ما طبعها من رؤية ووحدة إقدام، خلال هذه الفترة من راهن مغرب ما قبل الاستقلال. دون نسيان جوهر ما هو محلي من ذاكرة وشهادات ومذكرات، من أجل فهم أفيد لِما كان من تفاعلات. وذلك عبر هامش معلومة أوسع وأهم. كالتي طبعت علاقة “عباس المساعدي” بقبيلة “كزناية” التي ارتأت له قبرا شاهدا بين جبالها إثر اغتياله شهر يونيو 1956. وذلك عرفانا له بعد نقل جثمانه من “فاس” إلى “أجدير” الحدث الذي أثار ما أثار.

 

 

مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث

التعليقات مغلقة.