بقلم : الحبيب عكي
في مطبوع صغير قليل الحجم كثير الفائدة، عثرت عليه اليوم في السوق الأسبوعي عند بائع الكتب المستعملة، وأحمد الله أنني خرجت به من السوق فيما خرج الناس منه بالمعتاد من الخضر والفواكه، لقد وجدت فيه محاضرة قيمة شهية للأستاذ الوطني الكبير السياسي والنقابي والكاتب المغربي المناضل “عبد الله إبراهيم” (1918 – 2005)، كان قد ألقاها بالمركب الثقافي المعاريف بالدار البيضاء، بمناسبة 11 يناير 1995، التهمتها في سويعات معدودات فأشبعتني وزيادة، ونظرا لأهميتها اسمحوا لي أن أتقاسمها معكم، فقد جمعها وطبعها المنظمون تحت عنوان: “ثورة تقدمية ذات طابع تاريخي تصطدم بقوة رجعية مضادة 44 – 95 “.
وقد تحدث فيها المحاضر عن محاور أساسية طبعت حياة المغرب المعاصر كانت ولا زالت تعتمل فيه بقوة وهي: الحركة الوطنية مخاضات الميلاد ومآلات النضال.. تقديم عريضة المطالبة بالاستقلال، المضامين التحررية والإضافات الوطنية.. قوى الرجعية وصراعات المصالح والهيمنة بعد الاستقلال .. حكومة عبد الله إبراهيم كثالث حكومة مغربية (58 – 60).. الكتلة الديمقراطية والباب المسدود (1976 – 1980)، ولماذا انسحب منها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.. فشل مسلسل التناوب التوافقي.. شروط النهضة الوطنية الحتميات والأفاق؟.
هذا وقد بدأ السيد المحاضر – رحمة الله عليه – محاضرته بطرح أسئلة جوهرية وأساسية يرى أنه لا نهضة ولا تقدم – طال الزمن أو قصر – دون الإجابة عنها إجابة مجتمعية وسياسية واضحة وتعاقدية بين جميع الأطراف ومن ذلك:
- هل يمكن تحقيق ثورة تقدمية دون فلسفة ثورية؟
- هل هناك فلسفة ثورية دون ضمان تنفيذ برامجها، ولا يحميها الدستور ولا تدعمها المؤسسات ولا تنبع من الانتخابات..؟
- ملحمتنا التحررية الجهادية، هل أضافت البندقية إلى الشعار؟، أم عوضت البندقية بالشعار؟.
- معاهدة الحماية (1912)، ما هي الظروف الموضوعية الداخلية التي أدت إلى فرضها والقبول بها؟
- الحركة الوطنية (1930 – 1955) هل هي عمل ظرفي؟، أم مشروع تاريخي مؤسس لما سيأتي بعده؟
- الحركة الوطنية هل بدأت مع حرب الريف (20-27)؟، أم مع الصيام الغاضب وحركة اللطيف بالمساجد ضدا على الظهير البربري (16 ماي 1930)؟.
- وحتى تتضح مداخيل المعالجة، هل الأزمة في المغرب، أزمة حكم وحكام؟، أم أزمة نخب؟، أم أزمة أمة وشعب؟.
ويجيب الأستاذ المحاضر بأن مسؤولية النخبة واردة بشكل قوي، باعتبار طبيعتها البورجوازية (دارسين في فرنسا.. مترجمين معها..).. تموقعها في المدن أكثر من القرى.. فقدانها القدوة وضعف تأطيرها وقيادتها للمجاهدين في المدن والقرى.. عجزها عن توفير العتاد واللوجستيك الجهادي.. حرصها على مصالحها (تجار مع تجارتهم وأعيان مع مناصبهم..).. خذلان بعض مواقفهم(كتبعية بعضهم اللاحقة للمستعمر..)..، لكن صلابة المقاومين في العالم القروي مجاهدين وقبائل، وقوة الاحتكاك والمواجهة بينهم وبين المستعمر في غير ما موقع، قوى من شوكة وتنظيم الحركة الوطنية وعجل بميلادها، وعلى امتداد 34 سنة من عمرها الجهادي (30 – 56) كانت لها العديد من الثمرات على أصعدة شتى نذكر من ذلك ما وقع من التحول من التحالف مع الاستعمار في إطار الحماية إلى التحالف مع الملك في إطار المطالبة بالحرية والاستقلال، وكذلك التحول من المطالبة بالإصلاحات في إطار الحماية إلى المطالبة بالحرية والاستقلال والتقدم في إطار السيادة الوطنية والمعيش اليومي للمواطن والتاريخ الحضاري للبلاد.
وهكذا توج هذا التعاون بين المقاومة الوطنية والملك السلطان المغفور له محمد الخامس بعريضة المطالبة بالحرية والاستقلال التي قدمها الشعب المغربي إلى سلطات الحماية يوم 11 يناير 1944، وقد وضع مسودتها سفير المقاومة عند الملك الأستاذ المجاهد “محمد الفاسي”، وهو ككل المقاومين لا يخافون.. لا يرتابون.. لا يخونون.. لا يتراجعون.. ولا يقهرون.. لصلابة إرادتهم و وضوح رؤيتهم ورسالتهم التي كانت من الشعب وإليه وإعلاء لكلمة الله ومجد الوطن، وثيقة انضافت إليها توقيعات الشخصيات والمجاهدين، وضمنهم محاضرنا المناضل الأستاذ “عبد الله إبراهيم”، واحتضنتها عرائض التأييد الشعبية ومظاهرات النصرة العارمة، فكانت بحق منعطفا حاسما وثوريا في تاريخ المغرب المعاصر، ونذكر بعض ثمراتها على مستوى الوطن والمواطن:
- تغيير الولاء من التحالف مع المستعمر إلى التعاون مع السلطان والالتفاف حوله.
- تغيير الولاء من القبيلة والاستقواء بها إلى الولاء للوطن والأمة والدفـاع عنهما.
- تغيير البندقية التقليدية إلى البندقية المعاصرة للمظاهرات والاضرابات والعمل السياسي والنقابي والاضراب العام..
- إشراك المواطن بكل فئاته في هموم الوطن بكل مجالاتها.. المجاهدون.. النخبة.. العمال.. النقابات.. الفلاحون.. الطلبة (اتحاد طلبة المغرب بعنفوانه ونضاله وامتداده الدولي).
- نزع المبادرة والقرار من المستعمر وجعلهما في يد الشعب والسلطان من أجل مغرب مسلم حر ديمقراطي حديث بصدق وجدية ذلك الزمان.
- جعل المغرب جزء لا يتجزأ من المغرب العربي والوطن العربي والعالم الإسلامي دون التفريط في مصالحه مع أوروبا وامريكا والتضامن القوي والدائم مع كفاح الشعوب الأفريقية.
غير أنه بعد عودة السلطان وإعلان الاستقلال يوم 18 نونبر 1956، حدث ما لم يكن في الحسبان، فبدأت تظهر سياسة الأطماع والهيمنة، بل وانحرفت بالبلاد من مغرب حر مستقل إلى مغرب مستقل ولكن في إطار التبعية، ولمن؟ للمستعمر الذي طرده الشعب من الباب فأعاده المغرضون من النافدة وعبر المصالح؟. وضربوا بذلك كل تضحيات عقود من المقاومة الباسلة الظافرة، ومرغوا في الوحل أرواح الشهداء ودمائهم التي لم تجف بعد في كل المواقع البطولية، “المنقر” .. “عين صلاح”.. “الهري”.. “أنوال”.. “بوغافر”.. “بادو”.. “تافيلالت”.. “الناظور”.. “المذاكرة”.. “تنغير”.. “سيدي بوعثمان”..؟. وبهذا التراجع الخطير، دخل المغرب في أزمة مبكرة وسار في الطريق المسدود وهو لم ينتش بعد بما فيه الكفاية من تحرره وتخلصه من قبضة المستعمر الغاشم؟. وفي طريق الحل جاءت حكومة الأستاذ الجامعي المحنك والمناضل النقابي العتيد ورجل الدولة الصلب الأستاذ عبد الله إبراهيم ، وهي ثالث حكومة مغربية نصبت بعد حكومتي “امبارك البكاي” و”أحمد بلافريج”، وثالث حكومة خلدت بمداد الفخر في ذاكرة المغاربة قبل حكومتي الأستاذ”عبد الرحمان اليوسفي” والأستاذ “عبد الإله بنكيران”، وكأن المغرب لم يشهد غير هذه الحكومات الرائدة، وما غيرها ملأ فراغ في فراغ؟.
وكما يحكي رئيس هذه الحكومة في محاضرته التاريخية القيمة، فقد كانت حكومة سياسية.. مستقلة.. مسؤولة عن برامجها، لا حكومة حزب ولا تكنوقراط.. يرأسها رئيس حكومة لا رئيس الوزراء.. في تعاقد واضح بينه وبين الملك (ثقة.. احترام.. صراحة.. مصالح الوطن..)، منسجمة بين وزرائها موضوعيا لا ذاتيا، متجاوبة مع مطامح الشعب وكرامته وبصدق وجدية ذلك الزمان، وزاراتها متضامنة لكن ليس ضمنها أم الوزارات ولا وزارات السيادة، فقد كان المرحوم يرفض حتى فكرة اتباع الداخلية والدفاع والأمن الوطني للقصر، وكان يرى في ظهير 58 أنه مكبل للحريات وممارسة الديمقراطية التي ناضل من أجلها المغاربة؟. وفعلا، هذه الحكومة حققت للمغاربة وفي مدة وجيزة (58 – 60) ما لم يحققه غيرها: تنظيم عملية الحرث الجماعي في المجال الفلاحي.. نزع الأراضي الفلاحية من المستعمر.. إنشاء مؤسسة الإنعاش الوطني لحماية الفقراء والعاطلين.. مؤسسات صناعية وطنية كبرى كسامير و سوماكا.. تطهير الإذاعة والجيش والأمن والمخابرات من الأجانب.. العمل على تعريب التعليم وتوحيده وتعميمه ودمقرطته.. عقلنة مندوبية المقاومة وجيش التحرير وتحصينها من المجاهدين المزيفين.. وضع المخطط الخماسي (60 – 65)..، هذا مع العلم أن بعض الوزراء كانوا في الحكومات السابقة ولم ينجزوا ما أنجزوه في حكومة المرحوم عبد الله إبراهيم الذي كان يتحكم في قراره؟.
لكن اللوبيات والمكائد هي اللوبيات والمكائد داخلية وخارجية، فهذه الحكومة لم تستمر غير عامين يتيمين (58 – 60)، ليستمر بعدها المغرب في صراع المصالح والهيمنة والإقصاء وبالعنف أحيانا، إلى أن وصلت سياسته من جديد إلى الباب المسدود والسكتة القلبية خاصة ما بين (76 – 80) حيث سياسة التقويم الهيكلي لصندوق النقد الدولي.. تقديم ملتمس الرقابة ضد الحكومة.. تأجيل الانتخابات عامين باستفتاء شعبي.. إشراف الداخلية (أم الوزارات) على كل شيء.. تأسيس كتلة ديمقراطية تقبل بمجرد تناوب توافقي وتغيير الأشخاص بدل البرامج والسياسات والصلاحيات.. وهكذا انسحب منها حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بزعامة الأستاذ عبد الله إبراهيم؟. ليبقى إلى اليوم في المحطة ينتظرنا ويصرخ يا قوم لم يأتي القطار بعد.. لم يفت وقت السفر بعد.. لكن اعلموا – طال الزمن أو قصر – أن حتمية التغيير هي استراتيجية قارة للعمل الوطني اقتصاديا واجتماعيا، وتحديد الأهداف الوطنية في علاقتها بالدول الأوروبية والصناعية. وشروط ذلك:
- حكومة سياسية مستقلة مسؤولة عن برامجها.
- برلمان حقيقي مؤهل لمراقبة الحكومة ومناقشتها.
- إعلام وطني ديمقراطي مستقل لا مدعم ولا موصى عليه.
- سياسة راشدة لإشراك الشعب بصدق وإعادة الثقة له في نفسه والأمل في مستقبله.
- احترام سلطة المؤسســــــات الدستورية والقانونية لضمان حقوق وكرامة المواطن.
بهذا وبهذا وحده يمكن أن نسير في أفق تحقيق الوحدة الوطنية، بل والوحدة والدعم المتبادل بين بلدان المغرب العربي والوطن العربي والشعوب الإسلامية، وتحقيق التعاون الاقتصادي والثقافي مع شعوب السوق الأوروبية المشتركة والولايات المتحدة والشعوب الأمريكية، وتحقيق مساندة قوية ودائمة لوحدة واستقلال وتضامن الشعوب الأفريقية؟. رحمة الله عليك أيها المناضل الفذ، وأنت لا زلت تنتظرنا في المحطة ونحن ولا شك قد تأخرنا عنك، وربما سنتأخر عنك أكثر، قد أحدثنا ورائك ما أحدثنا، وسرنا في ما سرنا فيه من اختيارات واتجاهات، فعلا تقدمنا في مجالات ومجالات.. وأخفقنا في أخرى.. لكن ما لم تعلمه ربما، أنه قد انحرفنا في متاهات ما كان علينا أن نقربها بالمطلق.. لقد طبعنا في المغرب الرسمي مع الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين تضامنا مع تحرير الشعوب.. وعدنا مجانا إلى فرنسة التعليم الذي عربتموه.. انتخاباتنا أصبحت حرة ونزيهة ولكن وكأننا ندمنا على ذلك فأصبحت “برق ما تقشع”.. فلا يشاع عن حكومتنا غير أنها محكومة لا تحكم.. وعن برلماننا غير تأتأته حتى في شعاره “العام زين”، مساجد توقيفية “توفيقية” خرساء لا تفرح ولا تغضب.. عطالة خريجين وهجرة سرية وقضاء في الأعالي.. ومساعدات “كوفيد 19” لخمسة ملايين أسرة بساكنة 34/28 مليون، و.. و..، وكأننا قد نسينا ثورة 11 يناير 44 وتضحياتها، ونسينا ثورة الملك والشعب 20 غشت 53 وشهدائها، ونسينا كل الثورات حتى ثورات الربيع العربي وهي تستعر حولنا موجات وموجات، ولا نريد شيئا من أي كان.. فأرجو أن تتركنا عنك وتدعنا وشأننا.. أن تتفضلوا بمغادرة المحطة شكر الله سعيكم.. أن تناموا في قبركم قرير العين مشكورا لكم .. مغفورا لكم، حتى لا يطول انتظاركم لنا ويكون جزاء انتظاركم هو مجرد الانتظار؟؟.
التعليقات مغلقة.