أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

عيد “رعانصاث”: نبض الروح الريفية بين أمواج البحر وشعلة النار

جريدة أصوات

في السابع من يوليو كل عام، ومع انتهاء موسم الحصاد وجهد الفلاحين المضني، تحتفل منطقة الريف بعيد “رعانصاث” أو عيد العنصرة، وهو مناسبة شعبية متجذرة في عمق الثقافة الأمازيغية. ليس مجرد يوم للاحتفال، بل هو تتويج لمرحلة فلاحية شاقة وبداية لفصل الصيف الحافل بالأعراس والبهجة، ويحمل في طياته طقوسًا فريدة تعكس العلاقة الوثيقة بين الإنسان الريفي وبيئته، بين الماء والنار، وبين الأرض والسماء.

 

طقوس تتوارثها الأجيال
يستعد أهالي الريف، نساءً ورجالاً وأطفالاً، للاحتفال بهذا العيد الذي يمثل نقطة تحول في التقويم الفلاحي. تتزين الحقول بعد أن استراحت من عناء الحصاد بطريقة “التويزة” التعاونية، وتكتظ البيادر بسنابل القمح والشعير التي تم درسها، وتُشيد “الأثمون” لتخزين الحبوب في “المطمورات”. ومع هذه الاستعدادات الفلاحية، تبدأ الاستعدادات لموسم الأعراس، حيث تتلألأ الليالي تحت ضوء القمر الساطع، وتصدح حناجر الفتيات بأغاني “إزران نارايس” العذبة، وتتمايل الأجساد برقصات “تويست” على إيقاع دفوف شباب المدشر.

تتذكر الذاكرة الجماعية لأبناء الريف طقوس هذا العيد بتفاصيلها الساحرة، خاصة تلك التي كانت تمارس في السبعينيات. فمع بزوغ فجر يوم السابع من يوليو، تستيقظ نساء قرية أجدير قبل صياح الديك، يتوجهن في جماعات رفقة أطفالهن نحو شاطئ سفيحة. هناك، تبدأ رحلة التطهير الروحاني بالدخول إلى مغارة “ماساقا” القريبة من الشاطئ لرمي سبع حجيرات، ثم إلى مياه البحر لتلقي سبع أمواج متتالية، في إشارة إلى تطهير الذات من الشوائب.

وللفتيات العازبات نصيب خاص من هذه الطقوس؛ فبعد تلقي الأمواج السبع، ينتقلن إلى الجزء الصخري من الشاطئ لإضرام النار، يلقين فيها ثيابهن المبللة ويمشطن شعرهن بالمشط المسطح الذي يُرمى هو الآخر في النار. هذه الطقوس السحرية تهدف إلى تتويج صيفهن بزفاف مبارك، يركبن فيه صهوة الجواد على أنغام “إزران ورمش”.

بعد الانتهاء من طقوس الشاطئ، تمر نساء أجدير على بئر “ثانوت” ليشربن من مائه العذب، ثم يصعدن إلى قمة جبل سفيحة لتدشين طقوس معبد “سيذي بومذين”، حيث يتركن بعض العملات المعدنية ويربطن خيوطًا ملونة بالأشواك المحيطة بالمعبد، متقدمات بطلباتهن وتمنياتهن.

وبالعودة إلى المنازل، لا بد من طهي أكلة “إمشيخن” الفلاحية الصحية، وهي وجبة تقليدية تزيد من بهجة العيد.

طقوس الرجال ووقاية المزروعات
للرجال أيضًا دورهم في هذا اليوم المبارك، حيث يؤمون الشاطئ بدوابهم بعد انسحاب النساء لتطهيرها في البحر، بعد سنة كاملة من حمل الأثقال. كما يطهرون أبدانهم ونفوسهم من الشوائب، في استحضار رمزي للتخلص من أعباء السنة الماضية.

وبعد العصر، تبدأ طقوس حماية الأشجار المثمرة، حيث تُغطى جذوع أشجار التين بشكل خاص بتراب مبلل يُطلى بالجير الأبيض، لضمان إنتاجها للثمار اللذيذة. ثم يلي ذلك تلقيح أشجار التين بثمرة “الدوكار” لضمان جودة المحصول.

ولحماية الأطفال، تقوم الأمهات بتزيين أعين الصغار، ذكورًا وإناثًا، بالكحل (“ذازوتش”)، ليس فقط لمحاربة أمراض العيون التي تكثر صيفًا، بل أيضًا لدرء العين الشريرة (“أضان”). أما الآباء، فيقومون بتحصين شياههم بمادة زيتية مصنوعة من الأعشاب (“الزيث أوودجي”) كوقاية من الأمراض.

ومع اقتراب الشمس من المغيب، تبدأ حفلة إضرام النار والقفز على شعلة النار من الجهتين، وهو طقس يرمز إلى العلاقة الوثيقة بين الماء والنار، ويعبر عن التوازن والانسجام في الطبيعة. وفي المساء، تختتم حفلة “رعانصاث” بعشاء فلاحي شهي من أكلة “إمشيخن”.

عيد في الذاكرة ومستقبل مجهول
لقد كان عيد “رعانصاث” ولا يزال عيدًا سنويًا مرتبطًا بيوم السابع من يوليو، يمثل نهاية الموسم الفلاحي وتوديعه بعد عناء كبير، إيذانًا بقدوم فصل الصيف الذي تتوج فيه الأعراس وتتطهر فيه النفوس. إنه عيد أمازيغي أصيل، لكن ما تبقى منه اليوم هو مجرد ذكريات، حيث أصبح شاطئ سفيحة محتلاً بالكامل، ولم تعد النساء قادرات على ممارسة طقوس العنصرة الشاطئية بحرية.

يبقى على المجتمع المدني الجاد في الريف مسؤولية العمل على استرجاع وإحياء هذا العيد الأمازيغي بحلة جديدة، كونه يحمل عنصرًا أصيلًا من عناصر الهوية الثقافية للمنطقة. فهذه الطقوس، التي يعتقد بعض الباحثين أنها مستوحاة من تلاقح الثقافات بين المسيحية واليهودية وحضارات قديمة، ليست مجرد ممارسات فولكلورية، بل هي جزء لا يتجزأ من تاريخ وهوية مجتمع قبلي فلاحي، يستحق أن يُصان ويُحتفى به للأجيال القادمة.

التعليقات مغلقة.