ما حدث في السويد من إحراق للقرآن الكريم، وما أعقبه من اشتعال الشارع احتجاجا على سلوك لاحضاري مقترف في بلد يدعي احترامه وارتواءه من مرجع ينبوع الحضارة الإنسانية، أسقط كل الشعارات التي يرفعها الغرب ومرغها في الوحل والطين، فمن ولد من في هذه المشاهد الدرامية التي تابعها العالم؟
فليس المطلوب محاكاة النتائج، أو أن نستعرض مشاهد الصدامات التي تشهدها العديد من المدن السويدية بين الشرطة ومتظاهرين خرجوا للتنديد بسلوك أرعن صادر عن زعيم سياسي لحركة يمينية متطرفة، قام بحرق نسخ من القرآن الكريم خلال التجمعات، أو عبر تصوير الواقعة وتوزيعها، بل أن الاحتكاكات بلغت درجات من الشدة، شملت استخدام قنابل المولوتوف وحرق السيارات، ما أدى إلى جرح العشرات من المدنيين وعناصر الشرطة واعتقال عشرات آخرين.
من يتحمل مسؤولية هاته الهزات التي كان المجتمع السويدي في غنى عنها، كبلد يضرب به المثل في التعايش بين جميع المكونات التي تقطنه، الجامع بينهم المواطنة واحترام الدولة والقوانين المعمول بها، هل سيتم تحميل الضحايا المسؤولية فيما وقع؟ وهو الوارد من خلال حملة الاعتقالات التي طالت هؤلاء الضحايا، ولم تطل رمز إشعال الفتنة من خلال فعلته بإشعال النار في القرآن الكريم.
فليكن راسموس بالودان، من يشاء، وهو بالمناسبة حامل للجنسية الدنماركية والسويدية، يتزعم حركة “سترام كورس” أو “الخط المتشدد”، ولتكن طموخاته السياسية كما خطط لها أن تكون، لكن في نطاق احترام معتقدات الغير، واعتبار أن الحرية ليس مفهوما هيولاميا، يتم تسطير تكعيباته وفق مزاج مرضي.
الحرية احترام قبل أن تكون حقوق، احترام لكافة مكونات الأمة، وعلى الخصوص أقليتها، ما دامت تعيش ضمن إطار الدولة، وليتفنن “بالودان” في اللغة كما يشاء، ولكن المنطق يقول بأن فضاء الحرية يضيق إن استهدف حرية الآخرين، وضمنها حرية الاعتقاد، التي تطاول عليها هذا القزم السياسي لإثارة الرأي العام في مونولوج ممسوخ، وإخراج سيء جدا مع سبق النهيق والتزمير، الذي انقلب عليه كما سينقلب على قوى اليمين المتطرف ككل في أوروبا، والمدخل سيكون مع “لوبان” فرنسا.
واقعة السويد ستقلب ميزان المعادلات الانتخابية بفرنسا
الوقائع التي جرت بالسويد وما تلاها من غضب داخلي، وتنديد دولي، ستقوض بالضرورة الصعود الأخير لليمين المتطرف في العديد من الدول، وستسقط أوراق الزيتون عن مساحيق وجهها النازي، وسيكون المدخل من الانتخابات الرآسية الفرنسية 2022، لأن ما وقع بالسويد سيحقق إجماعا في الداخل الفرنسي على التصدي للتطرف واليمين المتطرف بكل الوسائل، وستشكل أحداث السويد جرعة المناعة التي ستوحد المهاجرين واليسار بكل أطيافه والخضر في تكتل لإسقاط هاته المشاريع القاضمة للأرض وللتاريخ والإنسانية.
المؤكد أن تفاعلات ما وقع في السويد سترخي بظلالها على المشهد السياسي الفرنسي، وهو ما انعكس في تقدم ّساركوزي” وفق استطلاعات الرأي المعروضة، وسيحقق غباء “راسموس بالودان” في تحقيق نعمة توحيد كل الأحرار والديمقراطيين واليسار لمواجهة هذا المد القاتل للبسمة وللحياة، وستحقق وحدة وراء مشاريع الدور الثاني من خارج قاعدتي،”لوبان” من جهة أو “الأغلبية الصامتة” أو “المقاطعة” من جهة ثانية.
المطلوب في وضع الأنظمة الوطنية هو البحث عن إجابات للواقع الاقتصادي والاجتماعي القائم والمتدهور بفعل كورونا، والأزمات المناخية والحرب الأوكرانية الروسية، بانعكاسات كل ذلك على الاستقرار والتوازنات الاقتصادية، مع تسجيل ارتفاع في نسب التضخم بشكل مهول، لا أن ينزل “بالودان” والزمر المرتبطة به إلى شوارع المدن السويدية داعيا إلى طرد المهاجرين المسلمين وغير الغربيين، متناسيا في المحصلة المعاكسة أن هناك سويديين في كل بقاع العالم، فهل سيتم التعامل معهم بنفس المنطق الأجوف ويتم طردهم وإجبارهم على الرحيل، وحينها كيف يمكن أن نتحدث عن وجود دول أمام شيوع مثل هاته العقليات الإغلاقية.
إن الرد على قتل الحريات باسم الحرية، كان درسا قاسيا للسويد بمؤسساته وأحزابه، حتى المتطرف منها، بأنه احذروا اللعب مع أمة المليارين، لأن هذا السلوك لن يولد إلا التطرف المضاد ويغديه، وهو ما لا يفهمه أصحاب منطق ازدواجية النظارات في التعاطي مع القضايا الكونية، وشطحات تحريم ديانة الإسلام، التي نادى بها هذا المعثوه والتي لا تعبر إلا عن فشل منظومة تدبيرية مؤسساتية تعليمية داخل هاته الدول، التي كرست التشدد والتطرف بدلا من القيم الإنسانية السامية التي حملها فلاسفة الأنوار في مرحلة تاريخية، هي الأزهى في تاريخ أوروبا والفكر الإنساني.
الشرطة السويدية وعكس ما تدعيه خرجت عن حياديتها وأصبحت جزءا من المشكلة وليس جزءا من حلها، سواء من خلال تغاضيها عن هاته السلوكات المرتبطة بإحراق القرآن الكريم، أو من حيث تدخلها العنيف وبالقوة العظمى لمنع المحتجين عن الإدانة والاستنكار، لأن تلك الكلمات لا تروق هواها، فتطبيق القانون معناه التزود بروع القيم الإنسانية السامية بعيدا عن عسكرة الحدود، وهو ما ذهبت إليه الأحداث في السويد التي أشعلها التطرف وغدى من لهيبها الشرطة السويدية التي كانت ولا زالت جزءا هاما مغديا لهذا التطرف، وأن مبرر أنها تكفلت بضمان أمن المسيرات التي قادها “بالودان”، مردود عليها وهو ما فهمه المناهضون للحركة العنصرية إضافة إلى بعض الساسة والمراقبين السويديين الذين استغربوا صدور هذا الأسلوب في حفظ حرية التعبير.
وللإشارة فقد سبق لرئيسة وزراء السويد “ماغدالينا أندرسون” أن وصفت “بالودان” ب”المعتوه”، لكن الديمقراطية تكفل حتى للمعتوهين الحق في التظاهر والتعبير، حسب قولها.
التعليقات مغلقة.