مغرب تحت الماء واستدامة الفلاحة: بين تحديات الندرة وحلول المستقبل
شاشا بدر
الماء هو سر الحياة، وبدونه لا يمكن لأي حضارة أن تزدهر أو لأي أرض أن تزهو بالخضرة والعطاء. في المغرب، حيث تتجلى الطبيعة بتضاريسها المتنوعة بين الجبال الشاهقة والسهول الخصبة والصحارى القاحلة، يظل الماء العامل الأساسي الذي يحدد مصير الفلاحة واستدامتها. فالأرض يمكن أن تكون خصبة، والتكنولوجيا يمكن أن تتطور، ولكن إذا غاب الماء، فلا زرع ولا حصاد، ولا أمن غذائي ولا استقرار اقتصادي.
تاريخيًا، اعتمد المغرب على موارده المائية المتجددة التي تأتي من الأنهار الكبرى مثل أم الربيع وأبي رقراق وسبو وملوية، إلى جانب الفرشة المائية التي تغذي الآبار والعيون المنتشرة في مختلف المناطق. غير أن التحولات المناخية والتوسع العمراني والتزايد السكاني جعلت الحاجة إلى الماء تفوق ما هو متاح، مما خلق تحديًا كبيرًا أمام استدامة الفلاحة التي تعد عصب الاقتصاد المغربي، حيث توفر فرص الشغل لملايين المواطنين وتضمن الأمن الغذائي.
الماء والفلاحة: علاقة مصيرية
تحتاج الفلاحة إلى كميات هائلة من الماء، سواء في زراعة الحبوب أو الأشجار المثمرة أو زراعة الخضراوات، وإذا لم يكن هناك تدبير عقلاني لهذه الموارد، فإن مستقبل الزراعة في المغرب سيكون مهددًا. لهذا، كان لزامًا البحث عن حلول مبتكرة تساعد على ترشيد استعمال المياه وضمان استدامة القطاع الفلاحي دون الإضرار بالمخزون المائي الذي أصبح في خطر نتيجة التغيرات المناخية والجفاف المتكرر.
لقد اعتمد المغرب منذ عقود سياسة بناء السدود، التي ساهمت في تخزين المياه وتوفيرها للقطاع الفلاحي والمجالات الأخرى، لكن مع تراجع التساقطات المطرية أصبح من الضروري تعزيز هذه السياسة بإجراءات أكثر تطورًا، مثل تقنيات الري الحديثة التي تعتمد على التنقيط بدل الري التقليدي الذي يهدر كميات ضخمة من المياه، وتشجيع الفلاحين على زراعة المحاصيل التي تحتاج إلى كميات أقل من الماء مقارنة مع الزراعات المستنزفة للمخزون المائي.
التحديات المائية وتأثيرها على الفلاحة
يعاني المغرب من تحديات مائية متزايدة، حيث أصبحت بعض المناطق شبه جافة، وأخرى تعاني من استنزاف الفرشة المائية بسبب الإفراط في استغلال الآبار، خاصة في مناطق الإنتاج الفلاحي الكبرى مثل سوس ومراكش واللوكوس. إن هذه الوضعية تفرض حلولًا جذرية تعيد التوازن بين الحاجة إلى الماء ومتطلبات التنمية الفلاحية.
كما أن بعض الفلاحين لا يزالون يعتمدون على أساليب الري العشوائية التي تؤدي إلى هدر كميات هائلة من المياه، مما يجعل الحاجة إلى حملات توعوية مكثفة لتوجيههم نحو اعتماد تقنيات الري الذكي الذي يوفر المياه ويضمن مردودية أعلى.
الحلول الممكنة لضمان استدامة الفلاحة
لا يمكن الحديث عن مستقبل الفلاحة دون التركيز على الاستراتيجيات التي تضمن استدامتها في ظل شح الموارد المائية. من بين هذه الحلول، نجد تحلية مياه البحر، حيث بدأ المغرب في استثمار هذه التقنية في بعض المناطق مثل أكادير، ومن المنتظر أن تتوسع هذه المشاريع لتشمل مناطق أخرى لضمان تزويد الفلاحين بالمياه دون التأثير على المخزون المائي الداخلي.
إلى جانب ذلك، يعتبر استغلال المياه العادمة المعالجة في الري حلًا واعدًا يمكن أن يساهم في تغطية جزء من حاجيات القطاع الفلاحي، كما أن تشجيع الزراعات المقاومة للجفاف، مثل الصبار والزيتون وبعض الحبوب، يمكن أن يساعد على تقليل الضغط على الموارد المائية دون التأثير على الإنتاج الفلاحي.
كما أن الاستثمار في البحث العلمي والتقنيات الحديثة، مثل الاستمطار الصناعي وتقنيات استعادة المياه الجوفية، يمكن أن يكون جزءًا من الحلول التي تضمن استدامة الفلاحة في المغرب في ظل الظروف المناخية المتغيرة.
نحو رؤية جديدة لإدارة الموارد المائية
أصبح من الضروري تبني رؤية جديدة لإدارة المياه في المغرب، رؤية تعتمد على التخطيط بعيد المدى وتوظيف التكنولوجيا بشكل أوسع، إلى جانب تفعيل قوانين أكثر صرامة لمراقبة استهلاك المياه، خاصة في المناطق الفلاحية الكبرى. كما يجب تعزيز البحث العلمي في مجال المياه والزراعة لضمان حلول مبتكرة وفعالة.
إن مستقبل الفلاحة في المغرب مرتبط بشكل مباشر بكيفية تدبير المياه، وإذا تم اعتماد سياسات ذكية ومستدامة، فإن القطاع الفلاحي يمكن أن يستمر في لعب دوره الحيوي في الاقتصاد الوطني، ولكن إذا استمر استنزاف الموارد المائية دون حلول حقيقية، فإن الوضع قد يصبح أكثر تعقيدًا في السنوات القادمة.الماء ليس مجرد مورد طبيعي، بل هو أساس الحياة، وحمايته تعني ضمان مستقبل الأجيال القادمة، وضمان استدامة الفلاحة هو في جوهره حماية للأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في المغرب.
التعليقات مغلقة.