جذبت السعودية، خلال العقد الماضي، صانعي الصفقات والمصرفيين ومديري الأصول الباحثين عن رأس المال، إذ انطلق صندوق الاستثمارات العامة (الصندوق السيادي) في جولة إنفاق عالمية بمليارات الدولارات.
لكن مع إعادة المملكة تقييم أولوياتها وتحويل الصندوق البالغة قيمته 925 مليار دولار تركيزه إلى التزامات محلية ضخمة، فإن عصر السعودية كمصدر للمال السهل يقترب من نهايته، وفق ما ذكرت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية.
ونقلت الصحيفة عن أحد كبار المصرفيين الاستثماريين في دبي، قوله: “انتهى الأمر. الناس يدركون ذلك”. ويشعر مديرو الصناديق والمصرفيون والشركات التي سعت إلى جمع رأس المال في المملكة بالفعل بتأثيرات هذا التحول.
شروط إضافية
ويقول مديرو استثمارات إن المسؤولين السعوديين وضعوا العديد من الشروط الإضافية لضخ تمويلات، وكثيرا ما يطالبون بتوظيف موظفين محليين واستخدام بعض التمويل على الأقل للاستثمار في الشركات والمشاريع المحلية.
وقال مصرفيون إن آخرين قيل لهم إن الرياض تريد أن ترى إعادة الاستثمار في المملكة لكي تلتزم بتمويل جديد.
ونجحت شركة بلاك روك، وهي شركة إدارة أصول أميركية، في تأمين 5 مليارات دولار من صندوق الاستثمارات العامة لترسيخ شركة استثمارية جديدة في الرياض، والتي أعلنت عنها في أبريل/نيسان، لكنها ملزمة بالمقابل في المقام الأول بتطوير أسواق رأس المال بالمملكة.
وقال صندوق الاستثمارات العامة، في بيان للصحيفة البريطانية، إن لديه “إجراءات استثمار قوية” تسمح له “باختيار الشركاء والمستشارين الأكثر ملاءمة، لكل تفويض نسعى إليه”.
وأضاف: “تُعرض الاستثمارات التي يقوم بها صندوق الاستثمارات العامة ،على لجان متعددة وتركز على قطاعاتها الرئيسية، وفقًا لتفويض الصندوق وإستراتيجيته”.
ويقول المصرفيون إن الشركات لم تعد تلجأ إلى الرياض بحثا عن النقد بالوتيرة ،التي كانت عليها في السابق.
ونقلت الصحيفة عن المصرفي المقيم في دبي، الذي لم تفصح عن اسمه، قوله: “تراجع اهتمام العملاء بشكل ملموس، ويرجع ذلك جزئيا إلى أننا نفحص (قرارات الاستثمار) بعناية كبرى، كما أنه لم يكن ثمة قدر هائل من النجاح من هذه الجهود والعروض.. يدرك الناس (طالبو التموي أن الأمر لا ينجح فقط بالحضور وتوقيع الشيكات”.
وحسب الصحيفة، فإن ما يحدث يعد تناقضا واضحا مع السنوات الأولى من التحول الدرامي لصندوق الاستثمارات العامة من شركة قابضة خاملة تابعة للدولة تبلغ أصولها حوالي 150 مليار دولار في عام 2015 إلى أحد أكثر الصناديق السيادية نشاطا وطموحا في العالم.
وتولى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، منصب رئيس الصندوق في 2015، ما منحه مهمة توجيه خطط الرياض البالغة تريليون دولار لتنويع الاقتصاد.
وسعى الصندوق إلى زيادة استثماراته ،في الأصول الأجنبية بسرعة من الصفر ،تقريبا إلى هدفه المتمثل في 24% من محفظته، وأحدث ضجة بسلسلة من الصفقات البارزة، بما في ذلك ضخ 45 مليار دولار في صندوق “فيجن” (Vision) ،التابع لسوفت بنك (Soft bank) في عام 2016 و20 مليار دولار في صندوق البنية التحتية لبلاك ستون الأميركية في العام التالي.
وفي السنوات التي تلت ذلك، أنفق الصندوق الأموال في مجموعة متنوعة من القطاعات من شركة صناعة السيارات الكهربائية “لوسيد” إلى مشروعها المثير للجدل “ليف غولف” (LIV Golf)، وشركات تعمل فيما بين السفن السياحية، والتعدين، والأصول الرياضية، وشركات الألعاب.
كما ضخ عشرات المليارات في أسواق الأسهم الأميركية والأوروبية، فضلا عن ملياري دولار في مشروع استثماري خاص أنشأه جاريد كوشنر.
تزامن زيادة نشاط الصندوق مع التشدد في أجزاء أخرى من العالم، ما جعل السعودية وغيرها من دول الخليج الغنية بالنفط مصادر رئيسية للتمويل.
وتزايد هذا الشعور بعد أن أدت الحرب في أوكرانيا إلى ارتفاع أسعار الطاقة إلى أعلى مستوياتها لسنوات عديدة، ما أدى إلى طفرة في الخليج ومساعدة السعودية على تحقيق فائض بالميزانية في عام 2022، وهو الأول لها منذ ما يقرب من عقد من الزمان.
ولكن منذ ذلك الحين، خفّضت المملكة إنتاج النفط في محاولة لاستقرار أسعار النفط الخام المتراجعة، وقد أثر ذلك على عائدات الحكومة وأعاد الميزانية إلى العجز مع مواجهة الرياض لالتزامات مالية ضخمة لتمويل خطط التنمية. كما فشلت الصفقات، كما يقول المصرفيون.
ونقلت الصحيفة البريطانية عن مصرفي استثماري مقيم في لندن لم تسمه، قوله إن السعودية قدمت نفسها بسخاء على أنها مصدر للمال، والآن صارت أكثر تشددًا، مضيفًا: “إنه جزء من إستراتيجية النضج. لم يكن بإمكانهم الاستمرار على هذا النحو إلى الأبد”.
وفقًا للإيداعات المقدمة إلى لجنة الأوراق المالية والبورصة الأميركية، انخفضت قيمة حيازة صندوق الاستثمارات العامة المتداولة من الأسهم في الولايات المتحدة من حوالي 35 مليار دولار في نهاية عام 2023 إلى 20.5 مليار دولار في نهاية يونيو/حزيران، ويتضمن ذلك بيع حصتها في شركة بلاك روك، والتخلص من حصصها في شركة كارنيفال للرحلات البحرية، ومجموعة الترفيه “لايف نيشن”
طموح
يقول المسؤولون السعوديون إن طموح المملكة لم يتغير ولا يزال هناك نشاط كبير يجري مع استمرار العمل في سلسلة من المشاريع الضخمة، لكن وزير المالية محمد الجدعان قال بمؤتمر في أبريل/نيسان الماضي إن الرياض “ستتكيف” حسب الحاجة.
وقال: “سنمدد بعض المشاريع، وسنخفّض حجم بعض المشاريع، وسنسرّع بعض المشاريع”.
وأضاف أحد المسؤولين التنفيذيين في شركة إدارة أصول مقرها الولايات المتحدة أن الأمير محمد بن سلمان كان يركز على تشييد البنية التحتية.
وتابع: “تحولت السعودية بشكل هادف إلى مشاريع النمو المحلي. لديهم طموح جريء لما يريدون أن يصبحوا عليه”.
إنفاق محلي
ونقلت فايننشال تايمز عن مصرفي آخر مقيم في لندن قوله: “الجانب الآخر هو أن السعوديين سئموا من معاملتهم باعتبارهم مجرد بقرة حلوب مدرة للأموال، وهم متشككون للغاية من اللاهثين وراء المال. إنهم يريدون من الناس أن يبذلوا قصارى جهدهم في اللعبة”.
ويستمر إنفاق الصندوق في الداخل حيث يهدف الصندوق إلى استثمار ما لا يقل عن 40 مليار دولار سنويا في المملكة ويشرف على مجموعة من المشاريع الضخمة، في حين يطور قطاعات جديدة، بما في ذلك السياحة والرياضة والتعدين والتصنيع.
كما يتعين على الرياض الاستعداد لاستضافة سلسلة من الأحداث الدولية، بما في ذلك كأس آسيا لكرة القدم في عام 2027، والألعاب الآسيوية الشتوية في عام 2029، ومعرض إكسبو 2030، بالإضافة إلى ذلك، فهي المتقدم الوحيد لاستضافة كأس العالم لكرة القدم 2034.
وأضاف المصرفيون أن الشركات التابعة لصندوق الاستثمارات العامة، بما في ذلك شركة “طيران الرياض” وهي شركة طيران جديدة، و”سافي” وهي شركة ألعاب، و”معادن” وهي شركة التعدين، تقوم بمعظم الاستثمار بنفسها حيث تسعى إلى تحقيق أهدافها الخاصة.
وقال المصرفي المقيم في دبي: “ثمة كثير من النشاط في شركات محفظة صندوق الاستثمارات العامة، وليس على مستوى صندوق الاستثمارات العامة”.
وأضاف أن “محافظ” المصرفيين ستتحول بشكل أكبر من صفقات الاستثمار إلى التمويل مع قيام الحكومة وصندوق الاستثمارات العامة بجمع الديون، فقد جمعت الرياض بالفعل حوالي 37 مليار دولار هذا العام.
المصدر : فايننشال تايمز
التعليقات مغلقة.