بقلم : الغلى بوزيد
رواية فتنة الغفران للكاتب القدير حمود الشايجي ،نص تجتمع فيه طلاوة السرد مع جمال العبارة ،التي لا ترخيك الى الخيال إلا شدّتك الى زمن اصطراع بني حمدان مع الإخشيديين في مصر ،صعوداً مع مجرى التاريخ الى زمن الفاطميين في مصر. زمن لا يحضر بشكل مباشر بقدر ما يتسلل عبر التخييل الذي يتيح لك -أيها القاريء- استكشاف عوالم شخصيات ،تتفاعل على ادبم مسرح أحداث تتداخل فيه برامج سردية ،تحدد مسارات توق وحسين المغربي وجماعة سهند وحبرها “المشبوه”، والصراعات الخفية الجلية في حلب ومصر وغيرهما، من الحواضر التي تمثل جغرافيات مشكلة للفضاء الروائي، او السردي الذي تجوس فيه الشخصيات وتتفاعل، خاصة الشخصيات الرئيسة التي تربعت على عناوين الفصول، كي تسرد الأحداث بضمير المتكلم أحيانا كثيرة . لا يغيب الشعر عن النص، لأنه يمثل ديوان زمن المتنبي والمعري وغيرهما، ممن استدعاهم الناصّ في رواية “فتنة الغفران”.
تعري رواية فتنة الغفران، بعض ما اعتور تداول السلطة وانتقال الحكم من يدٍ إلى يد في بغداد وحلب والقاهرة في الفترة التي تغطيها أحداث الرواية (335ه -459 ه) التي تضع القارئ في زمن الحمدانيين والاخشديين وما دار في فلكهما من صراعات ومكائد ومصائر شعراء كبار مثل المتنبي وأبي فراس، لتنتقل به (أي المتلقي) إلى جانب من عصر الفاطميين في مصر دون أن تعتمد نفسا سرديا خطيا يجعل تصنيفها سائغا ضمن صنف الرواية التاريخية التي تعتمد أساسا على النهل من مصادر التاريخ ونقل الأحداث وفق النسق المعتمد في تلك المصادر التي كثيرا ما تسلط الضوء على تاريخ البلاط وصراعاته دون أن تنبس ببنت شفة عن التاريخ المنسي، تاريخ المهمشين والضعفاء…
رغم تفقي أثر السطة في صعود ثم أفول أسر مثل آل المغربي وفقهاء ووزراء وحجاب وصوفية وشعراء، فإن رواية فتنة الغفران قامت على أساس تخييلي يوهم بواقعية الأحداث بالقدر الذي يقنعك -أيها القارئ- أنها من صنع الخيال، لذلك من اللافت للانتباه امتداد حضور “حبر سهند” في النص الذي يكشف أنه وسيلة للانتقام والاغتيال اعتمدتها جماعة جبل سهند، إذ أن الحبر استمر في الوجود متخفيا ينتقل من يد إلى يد كما تنتقل السلطة أحيانا على متن المكائد والدسائس، لنكتشف مع الناصّ أن اكتشاف توق وغيرها ممن جندتهم جماعة سهند للنيل من خصومها، لم يُنه حياة الحِبر الذي ظل يقوم بدور “المساعد السحري” الذي يحتفظ به “أبو العلاء المعري” دون أن يستخدمه….
الرمز لغة صامتة حمّالة رسائل، ولا يعدم القارئ في النص مواضع للترميز إلى بصيرة الأعمى الذي كانه شيخ المعرة، بيد أن الرمز الذي تكرر في سياقات متعددة هو الشطرنج لا غيره، ففي حوار ألغييري دانتيو مع حسين المغربي إشارة واضحة إلى أن دور الوزير على رقعة الشطرنج ينبغي أن يضاهيه دهاء ومكر الوزير في البلاط، إذ يراد منه أن يقف الموقف الذي أصر عليه دانتيو وتململ حسين في إنفاذه، وانتهى صريعا…
ثمة ترميز بلغة ناطقة الى وفاء الكلب حين قلب المعري سبة تلقينه بكلب المعرة الى مصدر فخر، إذ قال ما معناه إنه أوفى من الكلب في الحرص على سلامة قومه من الأذى. إنه حامي حمى حلب ومعرة النعمان ومطفىء غضب ذي السلطان إذا استشاط عليهم.
للقطة ايضا حضور في النص. إنها لا تفارق صاحبتها في الخان. إنها الإلف الأليف في المكان الذي يتسع لأسرار السراري والوزراء …
في الرواية نكتشف جانبا من حياة الجواري والغلمان في الخان وفي حياة السلاطين والخلفاء والوزراء، كما نكتشف جانبا من علاقة رهين المحبسين بالمقربين منه بمن فيهم نرجس وابن شاور، والتبريزي وابن أبي هاشم، وهم يمثلون حلقة القرب التي أحاطت برهين المحبسين ونهلت من معارفه، فهم يمثلون شخصية “المساعد”، فيما يقف أبو داود وبعض الفقهاء منه موقف “المناوىء”، وللمؤيد بالله خطة ملتبسة قوامها مديح “صاحب الحرف العظيم”، الأعمى الذي ظل “عصيّا على الخلافة والدولة”، وباطنها كسب ثقة أم المستنصر بالله تمهيدا لولوج البلاط…
تبقى الكلمة المفتاح: إن الملك إلا لله…
مات المعري الذي انشغل به الناس، في الواقع والرواية، وسطر الناص فقرة يحيل فيها الكلام إلى التبريزي الذي صلى عليه صلاة الجنازة، فهل ينفتل حبل آخر من حبال السرد من خلال حياة التبريزي الذي يظهر في النص غير مفارق للنبيذ، ويختم كلامه عن أبي داود الفاطمي الذي كان محط اهتمامه بعد موت المعري، قائلا: “أكد لي أنه سيسعى في غايتي، لكن منيته كانت أسرع، فقد أكل لحمه نيئا بالمجاعة التي ضربت الدولة الفاطمية، وسميت بالشدة المستنصرية”.
التعليقات مغلقة.