أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

فرنسة التعليم في المغرب، الحصيلة والاستحالة

الحبيب عكي

والمكونة الفرنسية تستقبل السادة الأساتذة المستفيدين من تكوين “تدريس المواد العلمية بالفرنسية” في المغرب، والذي نظمته مؤخرا عن بعد، مديرية التربية الوطنية والرياضة بإحدى المديريات بشراكة مع مهد تكويني فرنسي خاص بإحدى المدن، وهي عبر منصة “ZOOM” تحاول كسر الجليد بينها وبين السادة الأساتذة  سألت أحدهم: “هل درست مادتك العلمية بالفرنسية”؟، أجابها الأستاذ، ويظهر من جوابه أنه مشرف على التقاعد، فقال: “نعم، درستها بالفرنسية، ثم بالعربية، ثم الآن أيضا بالفرنسية، وأتمنى قبل تقاعدي القريب – إن شاء الله – أن أدرسها أيضا بلغة أخرى، إنجليزية أو صينية أو حتى بيزنطية، ولكنها ليست فرنسية”؟، وكأن السيدة المكونة قد صدمت وابتلعت “اللغم” ولكنها تجلدت وقالت :” ولماذا…أو لا.. لا..”!!، قال الأستاذ: “أولا، لأن هذا الشعب المسكين ليست له لغة وطنية يدرس بها – حسب المسؤولين -، ثانيا وهو الأساس، لأن التلاميذ لا يحبون الفرنسية ولا يفهمونها”؟، والدليل أننا على مشارف التقاعد وجئتم بنا تعلموننا كيف نجعلهم عكس ذلك؟.

         بدأ التكوين، وأخذت المكونة الرصينة المتزنة تخوض جاهدة في طلاسيم اللغة وفلسفة تدريسها والتدريس بها.. من تخصص غير لغوي يعني علمي مفاهيمي (Discipline Non Linguistique D.N.L)، إلى تخصص لغوي تعبيري تواصلي (Discipline Linguistique D.L)، وفيها نوعان أولهما لغة الأم مع أبنائها في المنزل(Langue Maternelle L.M)، ولغة يتعلمها التلميذ مع معلمه في القسم (Apprentissage L.A Langue)، ثم دخلت في فلسفة التكوين العميقة فأشارت أننا: ” لا نهجر لغة من أجل أخرى، ولا نستبدل لغة بأخرى، ولا نترجم حتى لغة إلى أخرى، ولكن يمكن أن ننفتح على لغة ما .. وأن نثري تعلم التلميذ ببعض أو عدة لغات، وفي إطار هذا الاثٌراء تأتي الفرنسية التي يمكن أن نحدث بها انتقالا عفويا سلسا وقصيرا(Micro alternance M.A)، كأن يطرح التلميذ سؤالا بها أو يجيب جوابا مختصرا بها،  أو انتقالا تعلما تيا مقصودا(Alternance Circonstancielle  A.C)، كأن يبرمج الأستاذ مفهوما أو فقرة أو تمرينا في الدرس بالفرنسية”.

         وهذه المقدمة وحدها، كافية لتبين اضطراب الأمر كله واستحالة بلوغ مقصده أو مقاصده المعلنة وغير المعلنة، “لا نهجر لغة من أجل أخرى.. ولا نستبدل لغة بأخرى.. ولا حتى نترجم لغة إلى أخرى”، فما فائدة التعليم إذن؟، وما فائدة تعلم اللغات أيضا؟، وما معنى الذكاء اللغوي أصلا؟، وهل لغة الأم (L.M) في منازل المغاربة لم تعد عربية عامية ولا أمازيغية وأصبحت فرنسية حتى نستثمرها في بعض التواصل مع التلاميذ؟، أليست لغة التدريس الوطنية (L.A) الرسمية هي اللغة العربية، فلماذا إضرارها بالفرنسية بل ونحاول استبدالها وتجاوزها بها؟، لماذا لا ينبغي أن نترجم من لغة إلى أخرى، هل لتفادي شحن التلميذ بكثرة المفاهيم والمعلومات ونحن نتحدث عن الإثراء؟، أم لتبقى عادة التحدث بالفرنسية وحدها هي السائدة، ومن كثرة التحديد يصبح الجميع حداد ماهرا على قولهم (à Force de forger on devient forgeron)؟، ثم، ما المعمول مع تلاميذ السنة السابعة إعدادي وهم طوال الابتدائي يدرسون النشاط العلمي والرياضيات والتفتح التكنلوجي بالعربية، ليبدؤوا دراسة المواد العلمية في الإعدادي بالفرنسية، أليس من الأفضل أن نترجم لهم بما يفهمون بدل أن ندخل معهم في متاهات الإيماءات والرسومات المتحركة كما تحثون على ذلك؟.

         استراتيجيتكم – منطقيا –  خاطئة.. منحرفة.. بل ومغرضة رغم ما قد يكون قد غلفها من نوايا قد تكون حسنة، وكان الأولى أن تلتزموا فقط بما جاء به ” قانون الإطار” الذي أصبح -على كل حال – خريطة طريق تلزم الجميع، وهو يتحدث عن “المناولة اللغوية” وليس الفرنسة،  المناولة تعني الانفتاح على بعض اللغات الأساسية في تدريس بعض المجزوءات في مقررات المواد العلمية؟. و”قانون الإطار” يتحدث عن تعدد المسالك العربية والدولية وحرية الاختيار وتكافؤ الفرص وضمان كل المسارات، ويتحدث عن ضرورة تقوية تدريس اللغات الحية كما تحدث الدستور قبله وبعده عن ضرورة حماية اللغتين الوطنيتين الرسميتين العربية والأمازيغية وتنميتهما، هل بهذه الفرنسة المفروضة في التعليم والاقتصاد سنذهب في هذا الاتجاه؟. والغريب أن لا أحد طالب بهذا، لآ تلاميذ ولا أساتذة ولا إداريون ولا تربويون ولا أحزاب ولا نقابات..، كان الجميع مستئنسا بالتدريس باللغة العربية وكانت لها مردودية تربوية وقيمية، فلماذا الإجهاز عليها دون أية مقاربة تشاركية؟، ولمصلحة من تعملون على سخرة مجانية غايتها أن تخرج الأستاذ من مدرس العلوم و الابداع والإقناع والإمتاع إلى مجرد مدرس للفرانكفونية المفلسة لغة الخضوع والخنوع والاتباع؟.

         لكن، هيهات هيهات، إن للعربية في هذا البلد عمقا وامتدادا أكبر أضعاف مضاعفة من أي لغة أجنبية أخرى مهما كانت زاحفة وماكرة أو حتى حالمة وساحرة، وضمنها اللغة الاستعمارية وعقليتها الاستيطانية، فما طردها المغاربة من الباب لتعود إليهم من النافذة، لا نافذة التعليم.. ولا نافذة المقاولة والاقتصاد.. ولا نافذة التشغيل والإدارة.. ولا.. ولا..؟، عبثا يحاول المحاولون إعادة استنباتها في أرض لفظتها ولا زالت، وهذا التكوين نموذج لذلك:

  • لماذا لم يكن هذا التكوين قبل إقرار الفرنسة أو في بدايتها؟.

  • أين جهود الإشراف التربوي طوال هذه السنوات في تتبع التحول وتشجيع تبادل التجارب بشأنه بين الأساتذة؟.

  • ماذا سيجني الأساتذة المشرفون على التقاعد بهذا التكوين وهم قاب قوسين أن يتحرروا من مزارعكم الخاصة، خيرها وشرها؟. كان الأولى بالتكوين أن يستثمر في الشباب الحيوي أم أنهم الآن يملؤون الشارع في إضراب مفتوح؟

  • أليس الأمر مجرد صفقة ريعية أبعد ما تكون عن التكوين، ذلك أنها برمجت توقيتها والأساتذة ملزمون بأقسامهم، ولو كان تكوينا حقيقيا لفرغوا من أجله ومن حقهم، أما أن يضعوا أرجلهم في الأقسام وآذانهم على الهواتف، فهذا استهتار وقهر وإجبار و”ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه”؟.

  • ماذا سيفيد تكوين الأستاذ إذا كان التلميذ لا يمتلك اللازم من أبجديات ومهارات وسلوكات التعلم، ولا يبذل الجهد المطلوب لتحسين مستواه لا في اللغة و التواصل ولا في غيرهـا؟.

إن تردي التواصل الفصلي بفعل اللسان الفرنسي المفروض دون رؤية استراتيجية واعية ولا إعداد بيداغوجي رصين على الأقل، فرض واقعا تعليميا آخر على الأستاذ والمتعلم، اختاروا فيه لغة بديلة ومسعفة إلى حد ما، لا هي بالفرنسية المهيمنة ولا بالعربية الخالصة، ولكنها لغة هجينة ومزدوجة يشرح فيها الأستاذ فقرة من درسه بالفرنسية المقررة أولا فلا يفهمه التلاميذ، ويكون الصمت والوجوم هو سيد الموقف أو إيماءات وأجوبة(Oui) و(Non) في أحسن الحالات، يضطر عندها الأستاذ لإعادة الشرح بالعربية أو العامية في نفس الغلاف الزمني للحصص ونفس كثافة المقررات واكتظاظ الأقسام..،  أليس هذا عبئا إضافيا على الأستاذ، يضيف شرحا على شرح، ولغة على لغة، وكأنه أستاذ اللغة الفرنسية والترجمة بدل أستاذ مادته العلمية من رياضيات أو فيزياء أو تكنولوجيا وإعلاميات أو علوم الحياة والأرض؟.

إن مثل هذه التكوينات لن تزيد المستفيد إلا قناعة بعبثية استبدال الذي هو خير بالذي هو أدنى، ولن تهدد مكانة اللغة العربية لا في المدرسة المغربية ولا في المجتمع المغربي، لكن الذي يفعل كثيرا من ذلك وتضافره سيفعل أكثر وأكثر، هو:

  • لسان الأم المغربية مع أبنائها في البيت عندما يكون مفرنسا دون دواعي؟

  • هي لغة الروض والحضانة والمدرسة الخصوصية عندما تفرنس البراءة عن قصد واستلاب أو سذاجة وانبهارا؟.

  • هي الدراسة الجامعية التي تحرم المسالك المعربة من التواجد داخلها وتجعل المسالك الدولية كلها مجرد فرنسية؟

  • هي المقاولة الأجنبية وغير المواطنة التي تنحاز في تشغيلها وفرص عملها إلى كل مفرنس(ة) اللسان إفرنجي اللباس بغض النظر عن الكفاءة وقيم الاستحقاق؟

  • هو الإعلام الذي يقذف كل يوم مواطنيه الأبرياء بالفرنسة عقلية وأخلاقا مستلبة، ضيوفا وحوارات بيزنطية، قبل البرامج والأفلام المدبلجة، ضاربا بعرض الحائط دفتر التحملات؟.

  • هو الإغراق في الحديث العامي والهجين الذي يجمع بين كل الرداءة “الزنقوية” دون معنى ولا ذوق، إلى درجة تصبح فيها لغة القوم لغة غريبة منفرة وكأنها لغة “كفار قريش”.

  • هي الثقافة التي تقطع قومها عن مصادر العربية الأصيلة من قرآن كريم وحديث نبوي شريف وحكمة التراثي الأدبي الجميل الذي جعل منها لغة الروح والجسد والقيم والأخلاق والإقناع والإمتاع.

      إنها سياسة الفرنسة الشمولية في مختلف المجالات، وفي جميع المداخل وعبر كافة الحوامل، وكذلك ينبغي أن يكون التصدي والممانعة، لأنها نهضة أمة وما نهضت ولا ستنهض أمة – طال الزمن أو قصر – بغير لغتها.. دينها.. وقيمها الوطنية و عمقها الحضاري، لا وقت لدينا للتجارب الفاشلة حتى في عقر دارها، وكفانا من التيه ومطاردة الأحلام والأوهام وخيوط العنكبوت؟.

التعليقات مغلقة.