رحاب الخترشي
كليوباترا ،مارلين مونرو،هيلين طروادة،جون كينيدي وماوتسي تونغ …شخصيات قد لا يرى البعض رابطا بينها لو جمعناها في كتاب واحد.. إلا أن الكاتب الأمريكي روبرت غرين تمكن من ملاحظة الخيط الرفيع الذي يربط بينها.. ،خيط سمّاه “الإغواء”
فن الإغواء
انطلاقا من أدبيات الإغواء ومرورا بفرويد إلى كيركيغراد ومن أوقيد إلى كازانوفا،يعرض الكاتب “روبرت غرين” في كتابه “فن الإغواء the art of seduction “ القوانين الخالدة للعبة الإغواء الأزلية عبر سرد استراتيجيات ساهمت في نجاح عدة شخصيات تاريخية مغوية …
ويتخذ الإغواء وفق روبرت غرين أبعاد عدة، إذ ينطلق من الإغواء بين الرجل والمرأة ليصل إلى معاني أوسع في الإغواء تشمل المجال السياسي، إغواء الجمهور وإغواء الأفكار …
هذا الكتاب يعتبره مؤلفه لعبة في علم النفس، لايهدف للإيقاع بالآخر بل يكشف عن غموض اكتنف علاقات عشناها جميعا كبشر، ويزيح القناع عن أنماط من الشخصيات قد يصادفها الفرد في حياته بشكل أو بآخر.
يحتوي هذا العمل على ثلاثة أقسام كبرى: قسم أول متعلق بأنماط الشخصيات المغوية، قسم ثان يتناول ضحايا الإغواء وآخر حول استراتيجية الإغواء. وينطلق الكاتب في القسم الأول في استعراض الشخصيات التسعة المغوية (الحورية، الكاريزماتي النجم، الساحر…)
يُستهل الكتاب بشخصية المرأة الحورية التي نجد لها صور في أزمنة مختلفة وشخصيات متنوعة ومؤثرة وسنتقصر في هذا المقال على هذه الشخصية
الحورية
يشير غراين إلى أنه على مدى آلاف السنين لطالما تحددت السيطرة بالقوة والعنف المادي، فلم تكن الرقة تحتل مكانة، وكانت النساء أكثر من يعانين في هذه المنظومة على اعتبار أنهن الأضعف جسديا، إذ ليس لهن من سبيل لمنافسة الرجل أو حمل السلاح…
في المقابل، كانت نقطة ضعف الرجل هي الجنس، هذه الرغبة التي يمكن أن تكسب المرأة سيطرة ما… ولكن الإشكالية كانت بمجرد أن تحقق له رغبته، كانت سيطرتها تنتهي ويكفي إن تُعرض عنه فيتركها، إذن ما نفع هذه القوة والسلطة الوحيدة إن كانت مؤقتة و مثل السراب؟
هذه الإشكالية اقتحمت فكر نساء وأرّقتهن، فرُحن يفكّرن في طرح طرق بديلة يمكن أن تحقق بها المرأة مكانة قوية بين الذكور. لذا سعين أن يجتذبن الرجل لا بالجمال فقط وإنما باستفزاز مخيلته وعقله أيضا قصد إستدراجه بعيدا عن عالم الحرب والرجولة والسياسة …
لذلك صنعن من الإغواء فنا وسلطة، وقد تقاربت النساء اللاتي وصلن لفرض سلطتهن عن طريق هذا الفن في سمات شخصية متشابهة وضعها الكاتب تحت اسم الشخصية الحورية.
وتتميز هذه الشخصية بأنها تمثل للرجل المتعة واللذة بلا حدود، إضافة إلى أنها تَعلم أن الرجل غالبا ما يكون مقموعا نتيجة للمسؤولية والعقلانية التي يجب أن يتحملها، فتلوح له بالتحرر الكامل من قيود حياته…
وتصور الحورية نفسها أنها الرمز المطلق لجميع أهواء وخيالات الرجل، معتمدة في ذلك على حضور جسدي مشحون جنسيا من خلال تفننها في إبراز مواطن جمالها، وإن لم تكن على قدر كبير من الجمال والجاذبية، في أجواء مشحونة بالخطر والدراما وسياسة المد والجزر، فيفقد الرجل سيطرته على نفسه وهو الأمر الذي يتوق اليه في أعماقه…
يميز الكاتب بين نوعين من الحوريات ويعرضهما من خلال شخصيات مختلفة أبرزهن كليوباترا و مارلين مونرو.
الحورية الدراماتيكية المبهرة “كليوباترا”
لم تكن كليوباترا صاحبة النفوذ السياسي الكبير أو الجمال الذي لامثيل له، بل كانت أنثى متقلبة المزاج، معتدّة بذاتها، تتوسل في الإغواء أساليب كثيرة كصوتها الساحر وحسن اختيارها لأزيائها وماكياجها، فتغدو شبيهة بالآلهة، تتكلم بصوت عذب إلى درجة أن مستمعيها لا يتذكرون فحوى كلامها إنما الطريقة التي تتحدث بها، كما لو أنها تجسد شخصية على خشبة المسرح..
في العام الثامن والأربعين قبل الميلاد بعد أن طردها أخوها بطليموس من مملكته، قامت كليوباترا بتنفيذ أكثر خططها ذكاءً لتلوذ بيوليوس قيصر الذي قدم إلى الإسكندرية ليضمن استمرار ولاء مصر لروما.
وتمثلت خطتها في أنها ظهرت له بطريقة سحرية فبينما كان جالسا إلى حاشيته يتدارس خطة للسيطرة على مصر، دخل أحد التجار بسجادة وفتحها أمامه لتخرج منها كليوباترا مثل آلهة فينوس بثوب نصف عار فتخلب لبّه عبر الطريقة الجريئة والفريدة التي اعتمدتها في الوصول إليه …
منذ ذلك اليوم وقع يوليوس قيصر أسير حب كليوباترا رغم تعدد علاقاته مع النساء إذ عملت على تجسيد أكثر خيالاته الجامحة، سواء تعلق ذلك بالسلطة أو بالجنس. كانت تخبره كل ليلة كيف أنهما يستطيعان أن يحكما الإسكندرية والعالم كآلهة، إضافة إلى أنها تعمدت الظهور عبر اكسسواراتها وملابسها كالآلهة ايزيس..
قدمت كليوباترا نفسها كتجسيد للفرادة المصرية ولم تغفل في اخراجها المسرحي عن وضع الديكورات المناسبة، فهي كثيرا ما كانت تغير ديكور القصر وتقيم أكثر الحفلات غرابة، وفي نفس الوقت كانت تجعل حياتهما مليئة بالتحديات والدراما فتنقلب فجأة باردة أوغاضبة دون سبب واضح وتعود من ثمة معطاءة وسخية
أصبح يوليوس قيصر يجد الأعذار دائما كي لا يعود إلى روما، لا سيما بعد احدى الرحلات التاريخية الكبيرة التي أقامتها له في أكثر السفن المترفة.
والأمر مشابه حين أرادت إغواء الجندي الشجاع مارك انطوني بعد أن اغتيل يوليوس قيصر، إذ أقامت له حفل استقبال عظيم عند أول لقاء جعله لا يستطيع مقاومة سحرها فيترك محبوبته فائقة الجمال أوكتافيا…
لا يتعلق الأمر بالجمال… إن الفرق بين ماهو مغوي و عير مغوي كالفرق بين الفحم و الألماس كلاهما مكون من نفس المادة لكن الألماس ترتبت ذراته بطريقة مختلفة عن الفحم و تبلورت.
عاش انطوني مع كليوباتر أحداثا موسومة دائما بلمسة درامية يحدوها الخطر من كل جانب،كان كل شيء يجري وفق إرادتها ،“أنت لا تحب كليوباترا أنت تعبدها “ هذا ما يوضحه الكاتب،فالجمال ليس ما يصنع الحورية إنما الهالة المسرحية التي تحيطها بالرجل المندفع نحو الخطر والمغامرة …
الحورية الجنسية :مارلين مونرو
كتبت مارلين مونرو أن أول اكتشاف لها لمعنى سلطة الإغواء كان أثناء مراهقتها،حين تمزقت بلوزتها التي قدمها الميتم لها، فاستعارت كنزة صوفية غليظة أصغر منها بمقاسين فتجمع الصبية من حولها، وتروي هذا الموقف فتقول “لقد نظروا إليّ كما لو كنت منجم ذهب”
لاحقا، عندما بدأت مارلين مونرو تشق طريقها في عالم السينما سمعت عبارات التمجيد والثناء عن جاذبيتها وسحرها، ورغم أن ظهورها المنحصر في الأدوار الثانوية أثار الحماسة و الانبهار في قاعات السينما، أخبرها المخرجون أنها لا تملك الموهبة الخالصة والجمال الكافي للظهور في الأفلام كبطلة…
وعلى مدار سنوات أخرى، علّمت مارلين نفسها عبر التجربة كيف تشتغل أكثرعلى صورتها، فكانت تتمرن على طريقة مشيتها وإظهار صوتها وتمضي ساعات طويلة أمام المرآة مهتمة بماكياجها وطريقة إرسال نظراتها
أصبحت مارلين مونرو علامة تجارية للإغواء، فما قدمته هو مزيج من الفتاة الصغيرة البريئة والمرأة المشاكسة الشبيهة بأنثى الثعلب.
كانت تمتلك عينين بريئتين ومستفزتين في الوقت ذاته، تعرف تماما كيف تحرك الليبيدو الذكوري، إضافة إلى أنها تحمل شيئا من الهشاشة مما يعطي وهما للرجل بأنه الحامي والأب، وبالتالي فإنها تعطي بلا هوادة عدة أحاسيس متناقضة مملوءة بالأنوثة والإثارة والغموض…
انحصر دور مارلين مونرو في شخصية الشقراء المغوية، بالرغم من أنها حاولت أن تبتعد قليلا عن صورة الحورية الجنسية عبر طلبها من المخرجين أن تؤدي أدوارا مخالفة، إلا أن دور الفاتنة المغرية التصق بها…
يرى روبرت غرين أن المشكل في سلطة الإغواء لدى الحورية الجنسية أنها لا تدوم طويلا لاسيما بعد التقدم في السن، كما أنه يصعب عليها تقديم انطباع آخرحين تريد إثارة اهتمام غير جنسي.
الحورية كما يعبر عنها روبرت غرين من أقدم المغويات على الإطلاق، نموذجها يعود للآلهة أفروديت، فهي تتمتع بهالة خرافية وليست فقط شيئا من الماضي والتاريخ وإنما تمثل نزوة ذكورية أزلية، لأنها تقدم المتعة الخالصة والخطر والجنسانية الناضجة، وهو كل ما يتوق إليه الرجل لأنه يعيش في عالم مقيد بالغرائز العدائية …
لو تمعنا في أسطورة الحورية من خلال ملحمة الأوديسة لوجدنا أن الخطر والجمال حاضران بكثافة فيها، فقد كان البحارة يقفزون من سفنهم بمجرد أن يسمعوا غناء الحوريات وأصواتهن العذبة …
وفق كتاب فن الإغواء يبقى نموذج البحارة المنساقين وراء الخطر و الغموض حاضرا في أغلب الرجال عبر عصور شتى فـ“باريس” تسبب في حرب من أجل “هيلين طروادة” و“يوليوس قيصر” غامر بإمبراطوريته من أجل كليوباترا و كذلك فعل مارك انطوني.
أما عن نابليون فقد أصبح محط سخرية شعبه بسبب جوزيفين الساحرة، والكاتب ارثر ميلر لم يتعاف طيلة حياته من الشغف بمارلين مونرو… كل هؤلاء الرجال بحثوا في هؤلاء النسوة اللائي صورن أنفسهن كآلهات وأيقونات عن معنى المغامرة ومعانقة التحرر من القيود..
لا يتعلق الإغواء بالمرأة فقط أو بالجنس، فمنذ القرون الوسطى خطى الرجال بخطوات محتشمة، بداية من الشاعر اوقيد وزمرة من الشعراء الغنائيين نحو عالم الإغواء البعيد عن السيطرة بالقوة المادية، ومع بداية القرن السابع عشر استفاد أوائل المغوين العظماء من الرجال كالدوق لوزان من التجارب الإغوائية للأنثى، فاستعاروا منها أساليب عدة منها جمالية المظهر الخارجي للجسم ببصمة ذكورية واللغة الاغوائية واشعال ملكة الخيال..
اكتشف الرجل تأثير الكلمات العذبة على المستمع وتدريجيا انتقل ذلك السحر إلى وسائل الإعلام والصحافة لجلب المستمعين و المشاهدين باعتماد الإبهار البصري والسمعي حتى أن الساسة منذ نابليون بونابرت اعتمدوا أساليب الإغواء لجلب الجماهير من خلال فن الخطابة وتقديم مشاهد ضخمة ولافتة مستخدمين أدوات مسرحية كجزء أساسي من الشخصية الكاريزماتية.
التعليقات مغلقة.