عبد السلام انويكًة
لم يرتبط اسمه بأي انتماء سياسي، اللهم مهمة أنيطت به من قِبل الملك الحسن الثاني، عندما كلفه في بداية تسعينات القرن الماضي بإقناع قادة اليسار الأوروبي للكف عما كانوا عليه من حملة إعلامية وسياسية ضد المغرب.
هو ابن ثلاثينات القرن الماضي وخريج السوربون ومعهد الدراسات السياسية بالعاصمة الفرنسية، حصل على شهادة عليا في العلوم السياسية وأخرى في التاريخ خلال فترة الخمسينات، قبل نيله دكتوراه الدولة بالجامعة نفسها أواسط السبعينات؛ من عناوين نصوصه: ثقافتنا في ضوء التاريخ، مفهوم العقل، مفهوم الحرية، مفهوم الدولة، مفهوم التاريخ، مفهوم الإيديولوجيا، العرب والفكر التاريخي، ابن خلدون ومكيافيلي، أزمة المثقفين العرب، مجمل تاريخ المغرب، من ديوان السياسة، الأيديولوجيا العربية المعاصرة” وغيرها.
ذلك هو “عبد الله العروي”، المفكر المغربي الغني عن كل تعريف، حيث هيبة وقوة موقف صوب الثقافة المغربية والعربية في ضوء الزمن، مع ما تميز به من رأي وطرح بقدر عال من جرأة حول قضايا ذات علاقة بما هو تراث وحداثة وماض وتجديد واشكالية تأخر تاريخي.
إشارات ارتأيناها مهمة ليس للحديث عن جدل فكر رجل، فهذه مساحة باحثين ملمين منشغلين بطروحات وقناعة وأفق مشروعه الفكري، بل فقط من أجل ورقة حول نص له كان بتعلق وأثر في تأطير طلبة جامعة مغرب أمس، نص موسوم ب”الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية 1830-1912″، لا يزال بإنصات باحثين ودارسين على تباين تخصصاتهم الانسانية داخل البلاد وخارجها، شكل ولا يزال مرجعا بقدر عال من الأهمية العلمية والمنهجية، فقلما لا نجده ضمن إحالات ما ينجز من أعمال بحثية، خاصة عندما يتعلق الأمر بقضايا وإشكالات ذات صلة ببنية وتحولات المجتمع المغربي وكذا قضية حركته الوطنية.
و”الأصول الاجتماعية..” هو في الأصل أطروحة “العروي” التي تقدم بها لنيل شهادة دكتوراه الدولة من جامعة السربون بفرنسا، وقد ظل باللغة الفرنسية لعقود قبل أن ترى النور ترجمة له للعربية كانت أمنية باحثين ودارسين ومهتمين منذ فترة؛ ترجمة جاء في تقديم “عبد المجيد القدوري” لها أن بقدر ما طبعها من جرأة مترجمين باحثين مؤرخين متميزين عن جيل جديد كل من “محمد حاتمي” و”محمد جادور”، بقدر ما لم تكن عملا سهلا نظرا لطبيعة متن دراسة وبنية تعبير ومستوى طروحات، خاصة ما هو بنية اصطلاحية احتاجت لجهد وحرص شديد من أجل نقلها من الفرنسية الى العربية، متسائلا في سياق تقديمه عن سر تأخر تحقيق هذه الترجمة خدمة للبحث والباحثين ولخزانة تاريخ المغرب ومجتمعه وثقافته، وعن غياب ترجمة من خلال بادرة ل”عبد الله العروي” نفسه، علما أنه ترجم عددا من أعماله الفكرية وكذا منشورات أخرى ذات صلة.
ولم يكن بلوغ منطق نص”الأصول الاجتماعية..” هذا أمرا سهلا، فقد طرحت ترجمته صعابا بنوع من التعقيد -يضيف القدوري-، بسبب طبيعة لغة “العروي” من جهة، وعمق نصه من جهة ثانية، علما أنه يجمع بين بعد نظري وآخر ميداني، مثلما يخص مثلا حديثه عن مفهوم “القبيلة” و”السيبة” و”الزاوية” وغيرها.
وعليه يذكر “القدوري” أن جهد المترجمان كان كبيرا نظرا لِما حرصا عليه من توثيق ومعالجة وانفتاح على دور أرشيف، للوقوف على ما هناك من مخطوطات وردت في النص، ولطبع ترجمتهما لهذا العمل بما ينبغي من دقة علمية ومصداقية، بل من جملة ما ورد في ورقة الترجمة التقديمية، ما تساءل عنه “القدوري” حول إمكانية قراءة نص “العروي” بعيدا وبمعزل عن مشروعه العلمي الفكري، مشيرا إلى أن مؤلف “الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية” جاء تتويجا لهذا المشروع، وأن مؤلفه “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” كان في الأصل حفرا في الفكر العربي المعاصر، لفهم آليات التحكم النظرية التي تخص النخب العربية عموما بما فيها المغربية؛ علما أن “عبد الله العروي” -يضيف القدوري- استوعب طبيعة عوائق الشخصية العربية المتعثرة في ظاهرها وباطنها، وحتى يتجاوز هذا البعد النظري اختار حالة المغرب الكبير لقراءة تاريخه قراءة نقدية، وفق تأطير نظري استهدف به تجاوز ظاهر الأمور التاريخية والانسانية والاجتماعية لبلوغ ما يحكمها ويتحكم فيها من منطق.
مؤلف”الأصول الاجتماعية..” الذي صدر في طبعة أولى ضمن منشورات المركز الثقافي العربي بأزيد من ستمائة صفحة، توزع على قسمين الأول منهما عنونه “العروي” ب: “النظام المغربي”، وقد جاء بأربعة فصول جمعت في تناولها بين مقومات المجتمع المغربي، “السلطان والمخزن”، “منابع السيبة والزعامات المحلية”، ثم “الثقافة والمنظومة الفكرية”؛ أما الثاني المعنون ب: “النظام في أزمة”، فقد تقاسمته خمسة فصول تناولت قضايا “العداء للأجانب ومنابعه”، “متناقضات التوجه الإصلاحي الرسمي”، “أصول الفكر السلفي المغربي” وما سماه ب”التسيب المغربي” ثم “الحركة الحفيظية”.
في تقديمه لترجمة المؤلَّف يذكر “القدوري” أن صاحبه يقول بصعوبة دراسة موضوع الحركة الوطنية لِما فيه من تعقيدات بأبعاد متعددة، مستحضرا في حديثه عنها تمثلات المغاربة صوب بلادهم وما هناك من قاعدة مجسدة لِما هناك من استمرارية، من أجل فهم تحولات، فضلا عن وعي تجاه ماض وحاضر.
هكذا كان ذكاء “العروي” العلمي في رده على ما طبع أبحاث مستعمرين من معطيات غير دقيقة، وهكذا يظل بوقع في عيون كل باحث ومؤرخ، لِما حضره من نهج ومقاربة لبنية كيان مغربي وهوية تاريخية، ولِما أورده حول المجال والإنسان المغربي، فضلا عن طبيعة ثقافته التي تحكمت في مساراته ووقائعه التاريخية.
وهكذا أيضا كان جهد “محمد حاتمي” و”محمد جادور” بقدر عال من القيمة المضافة في ترجمتهما لهذا العمل، ما يعكس ليس فقط خبرتهما في مجال البحث وسبله بل ما يخص مشروع “العروي” الفكري، باعتباره نسقا نظريا يصعب فهمه مجزءا- يقول القدوري-.
ويذكر “العروي” في مقدمة مؤلفه هذا، أن فكرة إنجازه ارتبطت بنبشه فيما هو بعيد يخص جذور الوطنية المغربية، مشيرا لِما طبع مغرب بداية الاستقلال من مظاهر صراع بين زعماء وطنيين معرجا على بعض مؤشرات قطيعة بين ماض قريب وحاضر، كما بالنسبة لقضية الحدود، وما تحدث عنه علال الفاسي حول خريطة البلاد التي لا تضم سوى خمس تراب المغرب التاريخي، مشيرا في بحثه الذي يعود لأواسط سبعينات القرن الماضي، لجهات لا زالت محتلة تجمع بين “تندوف”، “توات”، “الساورة”، “تدكلت”، “الساقبة الحمراء”، “شنقيط”، ثم سبتة ومليلية والجزر الجعفرية.
ويذكر العروي أن مؤشرات صراع النخب المغربية، هو ما نصبته سلطات الحماية من شخصيات وطنية لم تكن برغبة في جعل اللغة العربية لغة تعبير عن الانتماء الوطني، فضلا عما أورده حول جدل التراث وتاريخ البلاد القريب، كل هذا – يضيف- أبعد المغاربة عن أجواء التعبئة الوطنية بأشكالها الكلاسيكية، التي من شأنها حماية حدود البلاد ورفع شأن لغتها والفخر بتراثها.
هكذا أثث العروي في القسم الأول من أصوله الاجتماعية، صورة عامة عن النظام المغربي التقليدي في مرحلة كان لا يزال فيها بعيدا عن التأثير الأوروبي، الى حين القرن الخامس عشر حيث التوسع “الإيبيري” الذي كان بأثر في تعطيل حركة التاريخ المغربي مع نوع من الانغلاق عوض الانفتاح.
وهكذا تحدث في قسم مؤلفه الثاني هذا عن ردود فعل عناصر هذا النظام في مواجهتها للضغوط الأجنبية، وهو ما تدارسه مؤرخون استنادا لأرشيف أوروبي دون وثائق مغربية.
أما في خاتمة عنونها ب:”امتدادات”، فقد وصف الوطنية بكونها منظومة مؤطرة لأدوار معينة تتعدى في تجلياتها ما هو نفساني إيديولوجي وسياسي، مشيرا إلى أنها تراوح بين هذه المناحي وتدمجها في بنية سلوك جماعي تتحد وفق تصور مجتمع معين لماضيه، وأنه عندما تجد جماعة ما نفسها في وضع جديد حامل في ثناياه ما يهدد وجودها، فإن مكوناتها تعبر عن مخاوف بالاحالة على عناصر منتقاة من ثقافتها الأصلية الموروثة.
هكذا يتشكل بشكل طبيعي- يقول- نظاما مقاوما معارضا لكل جديد ومستجد ينتمي لمنظومة تسعى لأخذ مكان منظومة منهزمة على مستويات، مضيفا أن الحديث عن وطنية دينية أو ثقافية أو إثنية ليس في الحقيقة سوى حديث عن تحصيل حاصل، لأن ما يعبر عنه في العادة بالوطنية هو رغبة شكل وتشكيل في البقاء أو الاستعلاء بالثقافة الأصلية.
هذا قبل أن ينتهي العروي الى أن نعت وطنية معينة بأنها إيجابية أمر يقزمها إلى أدنى مستوى، لأنه يختزلها في لحظة إدراك كل جماعة لمصالح ضيقة خاصة مع تحديد وسائل كفيلة بأخذ مطالبها بعين الاعتبار، وأن ارتقاب ظهور وطنية عقلانية رهين بالايمان بامكانية ظهور مجتمع بشفافية لا رغبة له في بقاء جوانب من تاريخه خارج محك كل درس وتدقيق، وهو ليس أمرا سهلا القبول به بشكل مطلق، مضيفا أن الوطنية تقوم على قاعدة غلبة ماض على حاضر، في سعي لحفظ مصالح جماعات مهيمنة تظل بنوع من الاستمرارية في لعب أدوار ضمن وضعيات مستحدثة ومقولات تتشبت بترديدها طبقة تسلقت مراتب معهودة.
وقبل أن ينتهي الى أنه رغم حرصه على ما يجب من موضوعية، لم يكن مانعا من سقوط في أحكام قيمة وصعوبة حفاظ على تجرد بسبب حساسية بحث من جهة وطبيعة موضوع من جهة ثانية.
التعليقات مغلقة.