عبد السلام انويكًة
بات ما هو ثقافي رمزي من انشغالات باحثين دارسين مؤرخين منذ بضعة عقود، ولعل بقدر ما شكلت انشغالات هؤلاء تحولا في الرؤى تجاه أحداث ووقائع وتطورات، بقدر ما تحيلنا على ما أثاره “ابن خلدون” قبل قرون، لمَّا أشار في مقدمته الى أن التاريخ أمر آخر غير ما يظهر، في إشارة لا شك أنها لم تُلتقط لا ممن عاصره ولا ممن جاء بعده، بل ربما هي ما انفتح عليه جيل جديد من الباحثين المؤرخين خلال العقود الأخيرة ضمن ورش ذهنيات وعقليات وظواهر دائرية وغيرها.
وغير خاف ما هناك من تجليات ثقافية في إرث مدن المغرب العتيقة عموما، ذلك الذي يجمع بين تقاليد ونمط عيش وسبل تعبير وغيرها، وبين ما هو روحي بمشاهد عدة من قبيل ما تحتضنه هذه المدن من هيبة أضرحة صالحين، ما لا يزال بوقع وتوقير وزيارة وتبرك واعتقاد.
وكان صاحب مؤلف “انس الفقير وعز الحقير” قد قال يوما أن أرض المغرب تنبت الصالحين كما تنبت الكلأ، في إشارة بقصده شتات أضرحة هؤلاء هنا وهناك بين سهل وجبل وداخل وساحل.
ولا شك أن المتتبع لفعل الكتابة التاريخية حول مدن المغرب العتيقة، سيلاحظ ما سُجل من زخم بقدر كبير من الأهمية خلال السنوات الأخيرة مثلا حول زمن “تازة”، سواء تعلق الأمر بما أنجز من عمل علمي بشأن عدد من القضايا، أو ما ارتبط بكتابات توجهت بعنايتها لكيان المدينة الحضاري خلال العصر الوسيط والحديث، تلك التي تدخل ضمنها جهود فاعلين متميزين تمكنوا من بلوغ حصيلة بقدر رفيع من القيمة المضافة على غرار كائن مدن وجهات أخرى من البلاد، بحيث باتت المدينة الى حين بنصوص يصعب القفز عليها، لِما هي عليه من تنوير وفائدة ومعرفة تاريخية محلية وأسئلة وتوثيق ورؤى وتوجهات.
ويتبين من خلال حصيلة التأليف حول تازة، أن المدينة بزخم ثقافي تاريخي بين دروب وأزقة وساحات وغيرها، زخم يحضن تجليات انسانية وذاكرة محلية بقدر معبر من القدم، تلك التي تخص بنية مجتمع وعلاقات وعقليات وغيرها.
ولعل ضمن هذا الثقافي التاريخي للمدينة، وما هناك من مساحة أضرحة صلحاء وعلماء وفقهاء ومتصوفة، لا تزال بمكانة محفوظة لدى أهالي كما بالنسبة لولي تازة الصالح الشهير ب”سيدي عزوز”، الذي كان قبلة لعادات طلب قضاء حوائج على الأقل منذ بداية القرن الثامن عشر، ما لا يزال ساريا رغم ما هنالك من تحول في مناحي الحياة، نظرا لِما هو عليه هذا الضريح ومعه مزارات المدينة من اعتبار ومشاهد تدبير وترميم وتجهيز واحتفاء باعتبارها جزءا من تراب رمزي.
وكان ضريح “سيدي عزوز” دوما بنسق ثقافي وتجل روحي طقوسي، وغيره من مشهد جامع بين روائح بخور وأضواء شموع وهدايا وتبرك وأدعية وتمسح بجدران واحتفاء بموسم إلى عهد قريب، فضلا عن حضرة طائفة عيساوية وقراءات وغيرها، هي في واقع حال مظاهر قدسية ومكانة ضريح ولي صالح بات جزءًا من كيان مدينة منذ قرون.
ولعل الحديث عن “تازة” لا يكتمل دون ذكر وليها الصالح هذا، ولا يمكن الحديث عن هذا الأخير الذي يتوسط مجال المدينة العتيق، دون توقف على رمزية موقع ومكان، ومن ثمة قبة بإحالة على ماض، ودون توقف على ما لا يزال قائما من زيارة وتبرك واعتقاد؛ مع أهمية الاشارة الى أن “ولي تازة” هذا بقدر شهرته ومكانته في وجدان وأعين الأهالي، بقدر ما يحاط به من سؤال هوية وأصول.
وكان “بن الطيب الشرقي” قد أورد ضمن رحلة حجية له عن “تازة” نهاية ثلاثينات القرن الثاني عشر الهجري قائلا: “فيها من المساجد ما فيه غنية للراكع والساجد ومن المزارات..، ما ينتفع بقصده..، وقد زرنا..، من مشاهدها..، سيدي محمد بن الجبش، و”سيدي عزوز”، و”سيدي واضح”، و”سيدي أبي الفتوح” و”سيدي على الدرار” و”سيدي عبد الله”..، وفي خارجها الإمام “علي بن بري” وغيرهم ممن لم نعرف اسمه نفعنا الله تعالى بهم، وأعاد علينا وعلى جميع المسلمين من بركاتهم”.
وولي تازة “سيدي عزوز” هذا لم يرتبط اسمه وذكره لا بقصيدة وسلطة معينة، ولا بجهاد، ولا باسم آخر، ولا بإرث صوفي، ولا بمريدين، ولا بنشاط روحي خاص طبع حياته، ولا بمنظومة صوفية، ولا بانتماء لطريقة أو شيخ ما، ولا بشرح وحضرة وذكر وتلقين، ولا حتى بكرامات ما، كما بالنسبة لِما هناك من أولياء وصلحاء تتوزع أضرحتهم هنا وهناك بالبلاد.
كما أن “سيدي عزوز” هذا لم يرتبط اسمه لا بخلوة ولا بأبناء ولا بعلم ولا بقبيلة أو زاوية أو برَكة ما ولا بتاريخ ميلاد ووفاة ووصية، اللهم ضريحا وقبرا بات مزارا منذ على الأقل بداية القرن الثامن عشر الميلادي، نتاج بيئة محلية بنوع من الغموض، واللهم أيضا ما يرتبط به في كائن وعي جمعي وأفكار تحكم وتطبع كيان مجتمع ومكان وزمن، ومن ثمة امتداد وتلاقح أجيال وإرث وذاكرة.
هكذا انتقلت مكانة ولي تازة الصالح “سيدي عزوز” عبر الأزمنة، وهكذا لا يزال مشهده بمخيال خاص ضمن الثقافي الرمزي المحلي، مع ما هناك من حرص على حرمة عتبة اكراما واحتراما، فضلا عما هناك من شعور وتمثلات ذات علاقة بأنوار شموع وروح أبخرة وعطور وتجديد غطاء وهمسة هدية نقدية عبر ثقب خاص جوار بابه.
وغير خاف عن مهتمين بزمن المدينة وتراثها، كون المدينة كانت بموسم خاص به من خلال احتفاء خاص سنوي بمناسبة المولد النبوي الشريف، مع ما يرتبط بهذا الاحتفاء من إعداد وفرجة عيساوية خاصة ودعاء وحضور والتفاف وإطعام وزيارة وحضرة وتعبير فني شعبي محلي.
موسم كان الى عهد قريب من تقاليد “تازة” واشعاعها، بل يسجل لهذا الاحتفاء ما كان له من أثر في تماسك مجتمع وأسر ومن ثمة حفظ عادات وتقاليد وقيم وكرم وتضامن ووحدة رأي ولقاء في رحاب ضريح.
ولعل من مظاهر الولاء لولي “تازة” الصالح هذا، ما كان من إقبال لأهالي المدينة على اسم”عزوز” الذي كان بتميز وانتشار ورمزية روحية خاصة. بل الى عهد قريب كانت مواكب أعراس أسر تازة العتيقة تصل الى جنبات هذا الضريح على ايقاع مشاهد متميزة اعتقادا في بركة ورزق وعافية وحفظ، بل من الأهالي من كان يجد ضالة قيلولته في رحاب هذا الضريح خلال فترة الصيف خاصة، لِما يوجد به من هدوء ورطوبة وحرمة واحترام.
بل ولِما كانت له من هيبة كان يتم الاحتماء به واللجوء إليه، لإثبات حق براءة متهم ما من خلال قسمه على المصحف الشريف بداخله، واعتبارا لمكانته أيضا في نسق المدينة، عدة هي منشآت المدينة ومؤسساتها فضلا عن محلات خاصة حملت إسمه من قبيل ثانوية سيدي عزوز وخزان الماء سيدي عزوز وغيرهما.
وكان “سيدي عزوز” هذا موضوع أشعار وزجل وقصائد مدح تم التغني بها في مناسبات عدة، ويسجل أن من أجمل ما كتب حوله من زجل لحد الآن قصيدة رفيعة للفنان “الحاج نور الدين العماري” التي كثيرا ما تغنى بها أهل تازة منذ عقود.
ورغم ما هناك من حداثة لا يزال ضريح “سيدي عزوز” هذا من مزارات المدينة، خاصة مساء كل جمعة وأيام العطل والمناسبات الدينية، ورغم أن شخص هذا الولي هو بأصول مجهولة، فهو بمكانة خاصة لدى الأهالي بل بطقوس زيارة تجمع بين خلع حذاء وطهارة وصلاة على النبي عند الدخول وقراءة الفاتحة، وبإمكان الزائر الى عهد قريب إشعال شمعة ووضع بخور ورش عطر من قبيل “ماء الزهر”، وكذا شرب ماء متدفق من حنفية ببابه تعبيرا عن بركة مزار.
ولعل بقدر قدم عادة هذه الزيارة بقدر ما يطبعها من حس واعتقاد يخص تذكر صالحين من عباد الله تعالى، اقتداء بهم و استحضارا لِما كانوا عليه من صفات وعلم ودين وفكر وتربية واشعاع.
وتسجل حول أضرحة صلحاء تازة اعتقادات عدة في ذهنية الأهالي، فهذا “سيدي عبد الله” اشتهر بعلاج المس من الجن، وعليه يشترط بحسب الاعتقاد المبيت فيه ثلاثة أيام مع ذبيحة، وهذا ضريح “سيدي عيسى” الذي اشتهر في المخيال الشعبي المحلى بعلاج الأطفال المضطربين نفسيا، بحيث يؤخذ المريض اليه ويوضع بجوار قبره لبعض من الوقت، وهذا “سيدي علي ابن بري” إمام القراء المغاربة الشهير يعالج المس من الجن أيضا، إنما عبر زيارة لثلاثة أيام خلال كل خميس، أما “سيدي عزوز” فينظر إليه أنه بكرامات عدة يكفي التبرك به.
ولعل “سيدي عزوز” هذا باستثناء ذكر زيارته من قِبل “ابن الطيب الشرقي” في رحلته الحجية كما سبقت الاشارة إلى ذلك، ورغم قدم ضريحه كمكون أثري روحي بالمدينة، هو شخص مجهول لا تذكر عنه المصادر أي شيء، علما أن “عزوز” إسم كان أكثر انتشارا في غرب البلاد وبفاس وغيرها من الجهات، بل حتى بعدد من حواضر بلاد الغرب الاسلامي عموما منذ العصر الوسيط؛ إنما من خلال ما هناك من إشارات وردت في دراسات على ندرتها، قد يكون “ولي تازة” هذا جاء قادما من غرب المغرب ونواحي سلا تحديدا، بعدما كان بعلاقة هو وجماعة من أصحابه مع أحد صلحاءها الذين تميزوا بعلم وجهاد وقيم وعبادة وتصوف وصلاح، وأن ظروفا ما قد تكون دفعته لفراقه ومعه جماعته ايضا، وقد اختار ربما بخلافهم التوجه صوب شرق البلاد حيث نزل بتازة في زمن غير محدد قد يكون بداية القرن الثامن عشر الميلادي.
ولعل زمن تازة الثقافي الروحي لا يزال ببياضات ومن ثمة مجالا خصبا لنبش تاريخي، من شأن دراسة تجلياته تسليط بعض الضوء حول جوانب عدة منها ما يخص أضرحة صلحاء ومتصوفة وغيرهم.
وبقدر ما يحفظ إرث المدينة الرمزي عادات متوارثة، بقدر ما زيارة ما هو روحي ممثلا في رمز ولي صالح، هو خروج عن مألوف ومعيش يومي وانتقال من عالم مادي لآخر روحي، فضلا عما يسجل في نفسية زائر من رغبة امتلاء وشحن ذات بطاقة ايجابية لتجاوز ما هناك من مشاهد حياة. وليست زيارة أضرحة الصالحين بالمغرب أمرا حديث عهد، بل بقدم يعود من خلال ما هناك من شواهد في تراجم زمن العصر الوسيط. انما الذي يسجل كون ظاهرة زيارة اضرحة الأولياء عرفت اقبالا لافتا منذ القرن السادس عشر الميلادي.
مع أهمية الاشارة الى أنه منذ سيادة المذهب المالكي وخيار العقيدة الأشعرية ووحدة المذهب المالكي فضلا عن طريقة الجنيد بالمغرب، ظهرت الزوايا بعدد من مدنه أواخر دولة بني مرين تلك التي كانت تعرف بالرباطات.
وعلى أساس ما ورد في مصادر تاريخية مغربية ومشرقية كانت تازة واحدة منها، بل أول زاوية انشأت بها اشتهرت ب”أنملي” وقد بناها السلطان أبي عنان المريني، ما جعل المدينة وجهة خلوة روحية ومن ثمة صالحين منهم من وفد عليها من جهات أخرى كما بالنسبة ربما للولي سيدي عزوز.
ولعل علاقة أهل تازة بضريح هذا الأخير وبغيره من اضرحة المدينة يدخل ضمن ثقافة شعبية معبرة عن وجدان جمعي، بل لضريح سيدي عزوز وغيره نوع من رمزية سلطة ضمن نوع من انتروبولوجيا اعتقاد وتدين شعبي.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث
التعليقات مغلقة.