أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

في شروط نهضة جديدة لليسار المغربي

محمد سعيد السعدي

ان سؤال نهضة اليسار المغربي من جديد يعتبر ذا أهمية بالغة بالنظر الى ما وقع بعد اندلاع الصيغة المغربية لما سمي بالربيع العربي , حيث لم تستطع قوى اليسار الاستفادة من الحراك الشعبي الذي رفع شعارات من صميم قيمها (حرية, كرامة, عدالة اجتماعية). في حين تمكن الإسلام السياسي من تبوأ طليعة المشهد السياسي عقب الانتخابات التشريعية لسنة 2011.بل لقد أخذ نفوذ اليسار المغربي في التراجع , خاصة بالنسبة لليسار الحكومي الذي تفتتت قاعدته الشعبية بشكل مهول ينذر بتحوله الى مجرد نادي للتفكير دون تأثير في الاحداُث. أمام هذا الوضع المتأزم, يطرح السؤال حول أسباب تراجع اليسار وفرص وشروط نهضة جديدة لقواه خدمة لقضايا الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين والمحافظة على البيئة .
لقد حمل اليسار المغربي لواء الانعتاق من الاستبداد والاستغلال لعقود طويلة وأدى من أجل ذلك ثمنا باهظا تجلى في الاغتيالات والاعتقالات وعانى من ويلات الاضطهاد والقمع بشتى ألوانه. وبفضل هذه التضحيات الجسام وكذلك التحولات التي عرفها العالم سجل المغرب انفتاحا سياسيا خلال تسعينات القرن الماضي أدت الى مشاركة جزء من اليسار المغربي في الحكم في اطار ما سمي آنذاك بحكومة التناوب. ولا شك أن هذه المشاركة أثرت سلبا على الرصيد الشعبي لهذا الفاعل السياسي الذي لم يستطع ,رغم المجهودات التي بذلها, سد العجز الاجتماعي الذي ورثه عن الحكومات السابقة. كما أن رهانه على القطاع الخاص للدفع بعجلة الاقتصاد المغربي وتبنيه لخطاب ينهل من الليبرالية الاجتماعية (التركيز على التوازنات الماكرواقتصادية والتنافسية والانخراط غير المتحكم فيه في الاقتصاد الرأسمالي المعولم) لم يحقق النتائج المرجوة. ويبقى أن من بين أهم عوامل محدودية النتائج هاته اصطدام إرادة التغيير التي قادها اليسار من داخل الحكومة بقوة الدولة العميقة التي حدت من هامش المناورة الذي كان متوفرا لها. من جهة أخرى, فتح الدخول الى الحكومة شهية الباحثين عن فرص التسلق الاجتماعي عبر بوابة الأحزاب باسم شرعية جني ثمار النضال والاستفادة من الفرص المتاحة نتيجة التواجد في مراكز القرار. وقد تعزز هذا التوجه بفعل المشاركة في المحطات الانتخابية المختلفة وما نجم عنه من “انفتاح” على فئة “الاعيان” و”مالين الشكارة” أملا في حصد مقاعد انتخابية ترجح كفة الاستمرار في الحكومة لدرجة أصبح هذا الأخير هدفا في حد ذاته. بل أدى هذا الاختيار الى تغيير عميق في القاعة الاجتماعية لليسار الحكومي لدرجة أصبحت هذه الكائنات الانتخابية تتحكم في مصير هذا الأخير وتحسم في اختيار قياداته العليا, بل وتحدد خطه السياسي وطبيعة تحالفاته السياسية. وقد استغل جهاز الدولة العميقة هذا المعطى الجديد لتطويع واحتواء النخب الحزبية, كما رجح كفة التدبير اليومي والبيروقراطي للعمل الحزبي على حساب أنشطة القرب والعمل القاعدي والجماهيري. ونتيجة لهذا الانحراف السياسي انفرط التعاقد الذي كان يربط أحزاب اليسار الحكومي بقاعدته الشعبية العريضة وانتصر منطق الولاءات والزبونية على القيم النضالية وأقفلت المقرات الحزبية وتوارى الفاعل الحزبي الملتزم لصالح العضو المنتخب والبيروقراطي والانتهازي.
أما ما يمكن تسميته باليسار الممانع, فانه لم يستطع ملء الفراغ الذي تركه اليسار “التدبيري” على مستوى التواجد الميداني والجاذبية التي كانت تمثلها قيم اليسار ورموزه. ذلك أنه لم يتمكن لحد الان من تعبئة واسعة للجماهير والقوى الاجتماعية التواقة الى التغيير الديمقراطي وكفيلة بفرض ميزان قوى جديد لصالحها. هذا دون التبخيس من قيمة وأهمية المعارك النضالية التي خاضها هذا اليسار على الواجهة الاجتماعية والسياسية وتفاعله مع الحركات الاجتماعية ومكونات المجتمع المدني الجادة والملتزمة بقضايا المجتمع والشعب.
أمام هذه الصورة السلبية للوضع الذي أصبح يعيشه اليسار المغربي, ماهي شروط نهوضه من جديد وامساكه بزمام المبادرة في سبيل انتصار قيم الحرية والكرامة والتقدم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين ؟ ان الإجابة عن هذا السؤال يقتضي أولا وقبل كل شيء الوقوف على التحديات والفرص التي يوفرها المحيط العالمي والإقليمي والدولي قبل تحديد الأولويات والمهام النضالية المرحلية وشروط تفعيلها على أرض الواقع.
لعل من أبرز التطورات على الصعيد العالمي دخول الرأسمالية المعولة في ازمة عميقة جراء الامولة التي أدت الى تفاقم الفوارق الاجتماعية وتزايد مظاهر الفقر والاقصاء في الثالوث المهيمن على الاقتصاد العالمي (الولايات المتحدة, الاتحاد الأوروبي واليابان) وتفاقم الخطر البيئي. ان هذه الازمة البنيوية تبين بالملموس بأن هذا النظام الاقتصادي المبني على استغلال الانسان للإنسان لا يمكن أن يشكل بأي حال من الأحوال الأفق الذي لا يمكن للإنسانية تجاوزه كما يدعي أنصار نهاية التاريخ. وقد نتج عن هذه الازمة اتجاهات متناقضة :ففي حين تمكن اليمين المحافظ والمتطرف من الصعود الى دفة الحكم (وصول الرئيس الشعبوي ترامب الى دفة الحكم في الولايات المتحدة) أو تعزيز مواقعه في البلدان الأوروبية, سجلت التيارات اليسارية تقدما ملحوظا في عدد من هذه البلدان, خاصة اليونان واسبانيا وفرنسا وانكلترا والبرتغال. هذا دون أن ننسى المنجزات الاقتصادية والاجتماعية التي حققتها أحزاب اليسار في أمريكا اللاتينية في بداية هذا القرن قبل أن تعرف بعض التراجع في السنوات الأخيرة. ان ما ينبغي استخلاصه من هذه التطورات هو أن الشعوب قادرة على استعادة المبادرة والنضال من أجل الانعتاق والتحرر والعدالة الاجتماعية وأن قيم وقوى اليسار لا زال بمقدورها التأثير على الاحداث وقيادة هذه النضالات الاجتماعية والطبقية.
وما جرى على المستوى الإقليمي من اندلاع للثورات العربية يزكي هذا الطرح علما بأن خفوت جذوتها لآ ينبغي أن ينسينا بأن الثورات هي صيرورة تاريخية قد تعرف المد والجزر كما يدل على ذلك تاريخ الثورة الفرنسية الذي امتد لعقود طويلة. هذه هذه الملاحظة لا يجب أن تحجب عن أنظارنا جوانب القصور في هذه الثورات , ذلك أن التخلص من الحكام المستبدين وحده لا يكفي اذ يجب كذلك التفكير أو التخطيط لما يأتي بعده. وهذا ما ساهم في النتائج الكارثية في بلدان ما يسمى “بالربيع العربي” باستثناء التجربة التونسية. ويبقى أهم مكتسب حققته الشعوب العربية هو كسر حاجز الخوف الذي كان يحول دون الاحتجاج والتظاهر ضد الاستبداد والاستحواذ.
أما على المستوى المحلي, فان أهم التحديات تتمثل أولا في استمرار التحكم بعد الهزة التي عرفها ابان انطلاق حركة عشرين فبراير المجيدة. كما تبرز من خلال تنامي الإسلام السياسي الذي أصبح يحتل صدارة المشهد السياسي مستغلا ضعف الأحزاب الأخرى , خاصة التراجع الكبير لشعبية أحزاب اليسار الحكومي. بالإضافة الى هذا, تم تسجيل تراجع مقلق في مجال الحريات وحقق الانسان تجلى على الخصوص في قمع حراك اليف والزج بقيادييه في السجون بعد التنكيل بهم. في نفس الوقت أدت السياسات التقشفية المطبقة منذ مجيء حكومة “العدالة والتنمية” تنفيذا لتوصيات صندوق النقد الدولي الى تفاقم الازمة الاقتصادية والاجتماعية التي تكتوي بنارها الطبقات الشعبية المهمشة وفئات عريضة من الطبقة المتوسطة. بالمقابل, يتواصل استحواذ رأسمالية المحاسيب على الثروة على حساب الرأسمال المتوسط والصغير وحقوق المستهلك. في مثل هذه الظروف, ليس غريبا أن تضعف ثقة المواطن في الطبقة الساسية ويعم العزوف الانتخابي, خاصة في أوساط الشباب.
من جهة أخرى, يوفر المناخ العام على الصعيد الوطني فرص وامكانيات للنضال والمقاومة في مواجهة السياسات اللاشعبية والاقصائية كما يدل على ذلك تصاعد وثيرة الاحتجاجات في مختلف مناطق المغرب “المنسي” لعل أبرزها اندلاع الحركات الاجتماعية في الريف وجرادة وزاكورة وتنغير.
أمام هذه التحديات والفرص, يتعين على اليسار المغربي تحديد القضايا ذات الأولوية التي ينبغي التركيز عليها في هذه المرحلة التاريخية حتى يتم تحقيق حق الشعب المغربي في الحرية والديمقراطية والتقدم والعدالة الاجتماعية والمساواة. ان تحديد هذه المهام النضالية ينبغي أن يعود بالدرجة الأولى الى المناضلات والمناضلين في صفوف اليسار بمختلف مشاربه, وما نقترحه في هذه المقالة المتواضعة لا يعدو أن يكون مساهمة بسيطة نقدمها انطلاقا من اصطفافنا الى جانب قوى اليسار المغربي وما راكمناه من تجربة في العمل السياسي منذ عقود خلت.
أما القضية المحورية الأولى فتتمثل في ضرورة بناء الدولة الديمقراطية. ذلك أن استمرار الاستفراد بالحكم على مستوى رأس هرم الدولة في اطار ما اصطلح عليه “بالملكية التنفيذية” التي تضطلع بالقرارات الاستراتيجية, بل تتجاوزها الى مهام تدبيرية عملية يقلص الى حد كبير من أدوار المؤسسات الدستورية الأخرى (الحكومة والبرلمان) ويعطل تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة ويتناقض مع المعنى الكوني للديمقراطية التي تعتبر الشعب مصدرا لكل السلطات يمارسها عبر ممثلين ينتخبهم بحرية. ومن شأن بناء الدولة الديمقراطية ضمان المساواة في الحقوق والواجبات لكل المواطنين والمواطنات وسيادة دولة الحق والقانون واحترام حقوق الانسان كما هي متعارف عليها دوليا وضمان فصل السلط. كما أن هذه القضية الحيوية تعد ضرورية لمواجهة العولمة النيوليبرالية التي لا تؤمن الا بأصولية السوق وتعتبر الدولة عائقا ينبغي في وجه التراكم الرأسمالي ينبغي التخلص منه.
أما القضية المحورية الثانية, فتتعلق ببلورة البدائل الاقتصادية والاجتماعية الكفيلة بارجاع الامل لفئات عريضة من المجتمع المغربي, خاصة الشباب والنساء. فالديمقراطية السياسية ستبقى ناقصة ما لم تؤد الى تنمية اقتصادية حقيقية تستفيد منه بالاولوية الطبقات الكادحة والفئات الاجتماعية المستغلة, كما أن مسلسل التنمية لن يستقيم دون مشاركة شعبية كبيرة وانخراط حماسي لكل فئات الشعب, رجاله ونسائه, شبابه وكهوله. ليس الغرض من هذه المساهمة التفصيل في الحلول البديلة للاشكاليات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها بلدنا بقدر ما أننا نسعى الى عنوان عام قد يكون صالحا كأرضية للنقاش يؤسس للتوجه العام لهذه البدائل. وتبرز في هذا المجال أهمية الدور الذي ينبغي أن تلعبه الدولة الديمقراطية التنموية التي بينت التجربة التاريخية نجاعتها في المساهمة الحاسمة في حل العديد من الإشكالات المرتبطة بتخلف بلدان الجنوب (بلدان شرق اسيا على الخصوص), بل وحتى بعض الدول الأوروبية كفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية وبلدان شمال أوروبا. ان المنتظر من الدولة التنموية هو القيام بقيادة العملية التنموية وتأمين تواصلها. ولا يقتصر هذا الدور على التحفيز والتوجيه وتحسين مناخ الاعمال وتوفير البنية التحتية, بل يتعداه الى تعبئة الموارد الذاتية للبلد والانخراط المباشر للدولة في العملية الإنتاجية والاستثمار والنهوض بالقدرات العلمية والتكنولوجية .كما تقوم الدولة التنموية بابرام شراكات استراتيجية مع القطاع الخاص المنتج والمبادر والذي ينسجم مع الاولويات الاقتصادية الوطنية.
القضية الثالثة تتمثل في التأكيد على أهمية العدالة الاجتماعية, ذلك أن نشأة اليسار ارتبطت تاريخيا ببروز المسألة الاجتماعية بقوة خلال القرن التاسع عشر بأروبا وتنامي الوعي بضرورة التصدي للفوارق بين الطبقات والفئات الاجتماعية وتداعياتها, وذلك من خلال بلورة مشاريع اجتماعية بديلة.وهذا يمر أولا عبر الملكية الاجتماعية للقطاعات الاستراتيجية ومحاربة الاحتكار والريع داخل الاقتصاد. كما يتطلب تبني منظومة متكاملة من السياسات تضمن العدالة الاجتماعية (2)بدءا بامداد المواطنين بالسلع والخدمات الأساس واعتماد سياسة للاجور والاسعار تؤمن العيش الكريم والعمل المنتج وإعادة توزيع الدخل بما يحد من الاستقطاب الاجتماعي وإعادة تكييف السياسات الضريبية من أجل تقليص الفوارق بين الدخول والثروات في المجتمع.
القضية الرابعة تتعلق بالبعد البيئي في المهام التي على اليسار المغربي النهوض بها. وهذا يقتضي القطع مع النزعة الانتاجوبة التي ميزت الفكر الاشتراكي, والماركسي على الخصوص من خلال اعتبار “تطوير قوى الإنتاج” الموجه الرئيسي للتقدم. وهذا يستدعي إعادة نظر عميقة في نمط الإنتاج والاستهلاك الراهن في مختلف بلدان المعمور والقائم على منطق تراكم لامحدود (للرأسمال والارباح والسلع), وهدر الموارد, والاستهلاك المتباهي , والتدمير المتسارع للبيئة بشكل يهدد بحدوث أزمة بيئية كبرى. لهذا وجب اعطاء أهمية بالغة للحفاظ على البيئة في برامج ونضالات اليسار المغربي.
القضية المركزية الخامسة تتعلق بحقوق المرأة والمساواة بين الجنسين باعتبارها قضية مصيرية تقاس بها درجة التقدم الاجتماعي والرقي الحضاري للأمم. والحال أنه وبالرغم من المكاسب التي تم تحقيقها في هذا المجال, لا زالت المرأة المغربية تعاني من التهميش والاقصاء والتمييز على أساس النوع الاجتماعي على المستويات القانونية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية, مما يؤثر سلبا على دمقرطة المجتمع وتنميته ويحرم المرأة من المساهمة في بناء “مغرب اخر ممكن” ويكرس القيم والسلوكيات المحافظة والنكوصية داخل المجتمع. لهذا يتعين على اليسار التحلي بالجرأة الضرورية لطرح تصور متقدم لمكانة المرأة داخل المجتمع عبر اصلاح شامل لمدونة الاسرة لمنع تعدد الزوجات وتجريم زواج القاصرات والمساواة في الإرث ووضع قضية حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين في صلب النموذج التنموي البديل.
في الأخير, ينبغي التأكيد على أن القوى الاجتماعية الحاملة لمشروع التغيير الوطني الديمقراطي لا تقتصر على الطبقات الاجتماعية التي يستمد منها اليسار تقليديا قوته من طبقة عاملة ومثقفين متنورين وفلاحين فقراء, بل يمتد ليشمل كافة الفئات الاجتماعية المكتوية بنار السياسات النيوليبرالية التي تعمم الهشاشة والتهميش والاقصاء في ثنايا المجتمع.

(1) اقتبسنا عبارة ” نهضة جديدة” من عنوان الكتاب القيم للكاتب والمناضل اللبناني كريم مروة “نحو نهضة جديدة لليسار العربي”, دار الساقي, بيروت, 2010
(2) انظر” المشروع النهضوي العربي” الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت, 2010

التعليقات مغلقة.