قراءة في كتاب “مئتا قصة وحكاية أندلسية”
قراءة: عبد المجيد الإدريسي
يقوم كتاب “مئتا قصة وحكاية أندلسية” على فكرة جمع نصوص الحكايات الأندلسية من كتب التاريخ والتراجم والأدب وغيرها من مصادرها الأصلية سواء كانت أندلسية أو مغربية أو مشرقية طالما لها ارتباط بالأندلس وشرطها إثبات القصة والحكاية الأندلسية بصيغتها الحرفية وعدم التدخل فيها طالما حققت الحكاية مبدأ الطرافة، والمتعة، والإعتبار والتجربة والتشويق والفائدة.
و تتوزع بين حكايات الملوك والأمراء في حروبهم وسياستهم عادلين أو ظالمين وتحاول التعمق في طبيعة النفس البشرية من خلال تقديم نماذج متنوعة من الشخصيات.
بالإضافة للوزراء والقضاء والعلماء والفقهاء في جوانبهم العلمية والأخلاقية وكذلك كيفية تعاملهم مع واقعهم ومع معاصريهم من الأعلام والعامة وأصحاب السلطان وأثر ذلك على البلاد والعباد.
ولا نغفل الأدباء والشعراء والدور الكبير الذي مارسوه ثم تغوص في حكايات الصالحين والعامة وحتى النساء والحوادث التاريخية الفاصلة والمعارك المشهورة والشخصيات المغمورة كل ذلك برواية شهود الأحداث في محاولة لتقديم طرح تاريخي مغاير يتمركز حول النصوص ولتعيد الاهتمام للحكايات والقصص ودورها في نقل التجربة الإنسانية عبر العصور دون تدخل من جامعها بتعليق يشكل وصاية على القارئ بذكر رأيه وإن كان الإنتقاء والإختيار لا يخلوا من ميل لجامعها وإن قارب وسعه، وعسى أن تطور ملاحظات ومراجعات القراء هذا الجانب بحثا عن رؤية مغايرة للتاريخ إنطلاقا من ذهنيات وتصورات الإنسان الذي عاش داخلها دون التركيز على جانب معين بل بكل المناحي والظروف التي تحيط بالإنسان ويتقلب معها، وإن كان من مات قد إنقطع عمله فلن ينقطع ذكره بالأعمال الحسنة أو نقيضها حسب ما قام به في حياته وما حصد من أفعاله وأقواله .
فما زلنا نتذكر من ماتوا منذ آلاف السنين لأنهم تركوا أثرا على حاضرنا أو فكرنا أو التراث العلمي والإنساني على وجه العموم.
فترى الشخصية الواحدة في مختلف حالاتها ومواقفها المتعددة، وقد ترد الحكاية ونظيرها والمغايرة لها في المضمون .
وقد شهد التأليف في التاريخ والتراجم والأدب في المشرق إبان العهد العباسي ومنذ بداية عصر التدوين إزدهارا ملحوظا وتاوالت الرسائل المفردة والموسوعات الجامعة في مختلف مجالات المعرفة المرتبطة بهذا المجال المعرفي الغني والثري موضوعا وأسلوبا فمن مؤلفات الجاحظ البيان والتبيين والحيوان والبخلاء وغيرها إلى مؤلفات ابن قتيبة عيون الأخبار والمعارف وصولا إلى الكامل في اللغة والأدب للمبرد مرورا بموسوعية الطبري والمسعودي وأبي الفرج الأصبهاني والخطيب البغدادي وختاما بياقوت الحموي والوزير القفطي وابن العديم وابن عساكر وأخيرا بالمقريزي والذهبي وابن كثير وابن المبرد وابن طولون والسيوطي.
ولم تكن الحركة العلمية في غرب العالم الإسلامي في الأندلس بأقل من سابقتها في المشرق الذي تشربت علومه عبد الرحلات العلمية لأعلامها إليه وأضافت إليه خصوصيتها المعرفية والإبداعية فأنتجت علماءا كبارا في مختلف مجالات المعرفة الذين نبغوا فيها، غير أن معظم تراث الأندلس وخصوصا المراحل المبكرة منه قد ضاع بسبب النكبات الكثيرة التي تعرض لها ولم يبق منه إلا ما حفظته خزائن المشرق والمغرب والذي نجا قبل نكبتها الأخيرة . أما ميدان الأدب والتاريخ والتراجم فقد أنتج فيه الأندلسيون إنتاجا غزيرا فمن العقد الفريد لابن عبد ربه، الذي قال فيه ابن العميد كما نقله الحميدي، قال : وبلغني أنّ الصاحب ابن عباد سمع بكتاب «العقد» فحرص حتى حصل عنده، فلما تأمله قال: هذه بضاعتنا ردّت إلينا، ظننت أن هذا الكتاب يشتمل على شيء من أخبار بلادهم، وإنما هو مشتمل على أخبار بلادنا، لا حاجة لنا فيه فردّه.
إلى كتب ابن حزم طوق الحمامة، والاخلاق والسير في مداواة النفوس، والإمامة والسياسة، وقد عرضت هذه المصنفات لكثير من المظاهر الإجتماعية للحياة الأندلسية في كثير من جوانبها، وصولا لكتاب بهجة المجالس وأنس المجالس لابن عبد البر الذي هو بالأصالة عرض للحالة العلمية والأدبية والإزدهار المعرفي للمشرق كسابقه ابن عبد ربه ولم يعرض للأندلس إلا نتفا هنا وهناك .
ودائما ما كان أهل الأندلس والمغرب عموما يفضلون المصنفات المشرقية على نظيرتها الأندلسية إلا نادرا، وكما قيل أزهد الناس في عالم أهله، وقديما ما اشتكى أهل العلم في المشرق والمغرب من هذه الظاهرة.
قال سهل بن هارون رحمه الله:
” والنّاسُ مُوَكّلُون بتعظيم الغريب، واستِطراف البعيد، وليس لهم في الموجود الرَّاهن، وفيما تحتَ قُدرتهم من الرّأْي والهوى، مِثْلُ الذي لهم في الغريب القليل، وفي النّادر الشاذّ، وكلِّ ما كان في ملْك غيرهم.
وعلى ذلك زَهِدَ الجِيرانُ في عالمِهِم، والأصحابُ في الفائدة من صاحبِهم، وعلى هذا السّبيلِ يستَطْرفون القادمَ عليهم، ويرحَلُون إلى النَّازح عنهم، ويتركون مَن هو أعمُّ نفعاً، وأكثرُ في وجوه العِِلم تصرُّفاً، وأخفُّ مَؤُونةً وأكثرُ فائدةً ” اهـ.
[” البيان والتّبيين ” (1/90)].
وقيل للصّلت بن عطاء: كيف غلبْتَ على البرامكة وكان عندهم من هو آدبُ منك ؟ قال: كنتُ بعيدَ الدّار منهم، فقرّبني إليهم تبعُّدِي منهم “.[“زهر الأداب” (1/343)].
وقال ابن حزم رحمه الله في رسالة ” فضائل الأندلس ” – نقلا عن ” نفح الطيب ” (3/181)-:
” وأمّا جهتنا: فالحكمُ في ذلك ما جرى به المثل السّائر:” أَزْهَدُ النّاسِ فِي عالِمٍ أهلُه “، وقرأت في الإنجيل أنّ عيسى عليه السّلام قال: ( لا يفقِد النبيُّ حُرمتَه إلاّ في بلده )!
وقد تيقنّا ذلك بما لقي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من قريش، وهم أوفر النّاس أحلاما، وأصحّهم عقولا، وأشدّهم تثبّتا … حتّى خصّ الله تعالى الأوسَ والخزرج بالفضيلة الّتي أبانهم بها عن جميع النّاس، والله يؤتي فضله من يشاء.
ولا سيّما أندلسُنا، فإنّها خُصَّت من حَسَد أهلِها للعالِم الظّاهرِ فيهم الماهر منهم، واستقلالِهم كثيرَ ما يأتي به، واستهجانِهم حسناته، وتتبّعهم سقطاتِه وعثراتِه، وأكثر ذلك مدّة حياتِه بأضعاف ما في سائر البلاد:
إن أجاد قالوا: سارق مُغِير، ومنتحل مُدَّعٍ!
وإن توسّط قالوا: غثّ بارد، وضعيف ساقط!
وإن باكرَ الحِيَازةَ لقَصْب السّبق قالوا: متى كان هذا ؟ ومتى تعلّم ؟ وفي أيّ زمان قرأ ؟ ولأمّه الهبل!
وبعد ذلك إن ولجت به الأقدار أحد طريقين: إمّا شفوفا بائنا يُعلِيه على نظرائه، أو سلوكه في غير السّبيل الّتي عهدوها، فهنالك حَمِي الوطيس على البائس، وصار غرضا للأقوال ! وهدفا للمطالب! ونصبا للتسبب إليه ! ونهباً للألسنة، وعُرضَةً للتطرّق إلى عرضه!
وربّما نُحِل ما لم يقل، وطُوِّق ما لم يتقلّد، وأُلحِق به ما لم يَفُه به ولا اعتقده قلبُه!
فإن تعرّض لتأليفٍ: غُمِز ولُمِز، وتُعرِّض وهمِز، واشتُطّ عليه وعُظِّم يسيرُ خطبِه، واستُشْنِع هيِّن سقطِه، وذهبت محاسنُه، وسُتِرت فضائلُه، وهتِف ونودِي بما أُغفِل، فتنكسر لذلك همّتُه، وتكِلُّ نفسُه، وتبرُد حميّتُه.
وهكذا عندنا نَصيبُ من ابتدأ يحوك شعرا أو يعمل بعمل رياسة، فإنّه لا يفلت من هذه الحبائل، ولا يتخلّص من هذه النّصب، إلاّ الناهض الفائت، والمطفّف المستولي على الأمد …”اهـ.
وكان ممّا أنشده رحمه الله في هذا المعنى يخاطب قاضي الجماعة بقرطبة عبد الرحمن بن بشر:
أنا الشّمس فِي جوّ العلوم منيـرة * ولكنّ عيبـي أنّ مطلـعِيَ الغرب
ولو أنّنِي من جانب الشّرق طالع * لَجَدَّ على ما ضاع من ذِكْرِيَ النّهب
ولِي نَحوُ أكناف العراق صبابـة * ولا غرو أن يستوحش الكَلِف الصبّ
فإن يُنْزِل الرحمن رحْلي بينـهم * فحينئذ يبـدو التأسّـف والكـرب
فكم قائلٍ أغفلته، وهو حاضـر * وأطلب ما عنه تجـيء بـه الكُتْـب
هنالك يُدرَى أنّ للبُـعد قصّـةً * وأنّ كسـاد العلم آفـتـه القـرب
ولكنْ لِي في يوسـف خير أسوة * وليس على من بالنبـيّ ائتسـى ذنب
يقول- وقال الحقّ – الصّدق إنّني * (حفيظ عليم) ما على صـادقٍ عتـب
[“نفح الطّيب” (2/81)، و”المُغرب في حلى المَغرب” (1/356)، و” تاريخ الإسلام ” (30/414)].
قال ابن حزم : فإذا أراد أحد أن يشتهر فإنه ينزل عندنا في الشرق ليعلو نجمه حتي وإن لم يكن علي قدر من العلم مثل علماء الغرب
إذ أن المشرق من الشروق والغرب من الغروب
فكم في المغرب من علماء هم أجلّ وأعلم من كثير ممن عندنا من علماء.
وصدق الشاعر إذ يقول :
كم في الزوايا خبايا . . . وكم في الناس بقايا
قال أبو عامر ابن شهيد يمدح الإمام ابن حزم ـ وكان يومها شافعياً ـ:
ودون اعتزامي هضبة كسروية
من الحزم سلمانية في المكاسر
إذا نحن أسندنا إليها تبلجت
مواردنا عن نيِّرات المصادر
وأنت ابن حزم منعش من عثارها
إذا ما شرقنا بالجدود العواثر
وما جد أذيال الغنى نحو بيته
كأروع معرورٍ ظهور الجرائر
إذا ما تبغَّي نضرة العيش كرها
لدى مشروع للموت لمحة ناظر
فَسَلَّ من التأويل فيها مهنداً
أخو شافعيات كريم العناصر
لمعتزلي الرأي ناه عن الهدى
بعيد المرامي مستميت البصائر
يطالب بالهندي في كل فتكة
ظهور المذاكي عن ظهور المنابر
التعليقات مغلقة.