ما من منطقة أو مدينة فرنسية إلا وبها جمعية أو أكثر تعنى بالحمير وتنظم لها مناسبات احتفالية سنوية للتذكير بدورها في ثنايا الأرياف والمداشر، ولمحو الصور والأحكام الجاهزة التي تُصادر ما تحمّل ويتحمله هذا الكائن من مشقة وعناء خدمة للآدميين الذين يصرون مع ذلك على اعتباره رمزا للبلادة والوضاعة.
فمع نهاية موسم الصيف، تبدأ أعياد الحمير بكل جهات فرنسا، تتخللها مسابقات لاختيار أجمل حمار، والاستمتاع بمعزوفات الفرق الموسيقية المحلية على نغمات صاحب أنكر الأصوات ونجم الاحتفال، صديقنا الحمار. وعلى بعد أربعين كلم عن باريس من جهتها الشمالية، بنت بلدة ضائعة في ريف المدينة اسمها “بونتوكومبو”، شهرتها منذ أربعة عقود على تنظيم مناسبة احتفالية سنوية تحت اسم “المهرجان العالمي للحمير”.
وبلغ عدد الحمير المشاركة لهذه السنة 450 حمارا جاءت من مختلف المناطق الفرنسية ومن دول عدة، لتتنافس على لقب أجمل حمار أمام أهالي البلدة والزوار الذين فاق عددهم الأربعين ألف، معظمهم من الأرياف الباريسية التي يشكل فيها الحمار جزءا هاما من تراثها الاجتماعي والثقافي.
وعلى امتداد ثلاثة أيام، تتبع الزوار مجموعة من العروض والمداخلات حول حياة الحمير والخدمات المختلفة التي قدمتها للإنسان حتى أثناء الحروب، وخاصة خلال الحرب العالمية الأولى التي لعبت فيها دورا حاسما بنقلها الأسلحة والذخائر إلى المقاتلين على الجبهات البعيدة. كما تناولت مساره التاريخي العامر بالمشاق والمتاعب التي تحمّلها بصمت وصبر ناذرين، ساخرا من كل النكت والطرائف “التحقيرية” التي حكيت عنه في مجالس الأصدقاء والأقارب، ومن الكثير من الإبداعات الأدبية التي استأثر فيها بشهرة الغباء والتحمل. كما تمكن الزوار من التعرف بدقة على مختلف فصائل الحمير الممثّلة في المهرجان بدءا من الحمار البوربوني الفرنسي، إلى الحمار الأبيض المصري، مرورا بالحمار الإيرلندي والحمار الأندلسي والحمار النصري الآسيوي، ثم الحمارين اليوناني والقبرصي، وهما الأكثر شهرة في العالم.
وشهدت نهاية سباق أسرع حمار الذي امتد على مسافة كيلومترين تنافسا قويا بين 20 شابا على ظهور حميرهم، حيث حسم الحمار اليوناني السباق لصالحه متقدما ببضع ثواني على منافسه الحمار الإيرلندي. أما لقب ألطف وأظرف حمار فكان من نصيب الحمار البربوني الفرنسي الذي أعطى لفرنسا فوزها الأول بعد خمس دورات متتالية. وفاز الحمار الأبيض المصري بقبعته الشمسية، ونظارته السوداء وكل مستلزمات الإطلالة الحميرية اللائقة بلقب أجمل حمار.
وربما استحضر الوفد المصري وهو يفوز بهذا اللقب، العلاقة الوطيدة التي كانت تجمع الأديب توفيق الحكيم مع جنس الحمير حيث حاورهم وعايشهم في الكثير من أعماله الروائية والمسرحية. فبعد روايتيه “حمار الحكيم” و”حماري قال لي”، أبدع الحكيم مسرحية “الحمير”، ومات دون استكمال مشروع مسرحية “الحمار يفكر”، التي اعتبرها النقاد قمة في الامتنان لهذا الكائن المنعوت ظلما بالغبي.
وللمصريين اهتمام تاريخي متميز بعالم الحمير حيث كانوا من السباقين عالميا إلى تأسيس جمعيات تعنى بهذا الحيوان، وأهمها “جمعية الحمير” التي أحدثها سنة 1930، رائد المسرح المصري آنذاك، زكي طليمات، وانضم إليها عدد من المفكرين والأدباء وفي مقدمتهم توفيق الحكيم وعباس محمود العقاد، قبل أن ترأسها السينمائية الكبيرة، نادية لطفي، في السبعينات وتعمل على توأمتها مع “نادي الحمير” الفرنسي الذي أسسه المفكر فرانسوا بيل، منذ اكثر من 50 سنة، وكان أعضاؤه يتمتعون بمكانة اجتماعية وسياسية مرموقة. وقد عبر في أول نشرة أصدرها النادي عن عميق سعادته بقوله :”لقد وجدت في تأسيس /نادي الحمير/ بُعدا آخر للحياة، وتعرفت على ثقافة إنسانية جديدة تبتعد بكل ديمومتها عن الحقد والفساد الأخلاقي والإنسانيالمستشري في أغلب المجتمعات. كما رسمت في ذهنيتي لوحة مفعمة بالحياة، تحمل الحب الكبير لهذا الكائن الذي لا أفهم مبررقسوة الإنسان عليه”.
التعليقات مغلقة.