أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

لماذا يجب قراءة فرديريك نيتشة؟ في ذكرى ميلاده، إهداء إلى عقلي الذي أحبه….

عبد العزيز العبدي

في كتابه “الانسان الثائر”، يقول ألبير كامو “اذا استثنينا ماركس، فان مغامرة نيتشة لا مثيل لها في تاريخ الفكر، ولن نخلص أبدا من رفع المظلمة التي سلطت عليه. نعرف دون ريب عبر التاريخ فلسفات تمت ترجمتها وخيانتها، ولكن لحد ربط نيتشة بالقومية الاشتراكية، وهي ايديولوجية هتلر والنازية، لم يحصل قط أن قوبل فكر كامل ينيره نبل وتمزق روح استثنائية بمثل هذا الفيض من الكذب المنشور على مرأى العالم، وهذا الركام الفظيع من الجثث في المعتقلات” .
تحل اليوم الذكرى 165 لميلاد فريديريك نيتشة، الفيلسوف الألماني الذي شكل منعرجا حاد الزاوية في الفكر الإنساني بشكل عام، وعاش حياته المضطربة كصيغة لتوازن أطروحاته الفكرية التي هدمت كل مسلمات الفلسفة التي سبقته….
ولد في 15 أكتوبر 1844 وتوفي في 25 غشت1900، مخلفا وراءه إرثا فكريا غنيا وتأريخا لمسار حياة حافلة ومضطربة تميزت باعتلال صحته الجسدية، حيث أصيب بالديفتيريا والسيفيليس وبالحوادث العرضية التي زادت اعتلاله الجسدي تفاقما، تمثلت في سقوطه من على فرس وهو في الجندية حيث تكسرت ضلوع قفصه الصدري، ثم إصابته بضربة سوط حوذي كان يعنف فرسه وتدخل فريديريك نيتشة ليحول ذون هذا التعنيف، وهي الضربة التي شكلت بداية لانهياره الصحي الكامل ودخوله في صمت طويل خلال فترة جنونه التي امتدت لأزيد من عشر سنوات، توفي بعدها في سنة 1900.
في مقابل هذا الاعتلال الصحي، كان الرجل نابغة زمانه ذهنيا، فقد قبل كأستاذ محاضر في مادة الفيلولوجيا في جامعة بازل السويسرية وهو لا يتعدى سن الرابعة والعشرين سنة، وكتب في” أصل الأخلاق”، عن الفلسفة الإغريقية، و”الانسان الأعلى” وغيرها من المؤلفات التي رسمت خطا متوازنا ومتصاعدا يؤشر على قوة عقله في مقابل اعتلاله الصحي…
تحل هذه الذكرى وسط منحيين مختلفين حد التناقض ولا يعكسان في الحقيقة سوى التناقض الحاصل بين عالمين، عالم متخلف بفكره وعمرانه وعالم متقدم بذات الفكر وذات العمران، فبينما نجد عودة قوية إلى قراءة نيتشة من طرف المواطن، وأركز هنا على مفردة المواطن، الغربي، الأمريكي والأروبي، حيث أن مؤلفات هذا الفيلسوف حطمت أرقاما خيالية في الطبع والاقتناء، كتجسيد لنبوءته بأن كتاباته لن تقرأ إلا في سنة 2000 وما بعدها، نجد في المقابل تجاهلا تاما واستعداء خطيرا له من طرف النخبة المثقفة أو شبه مثقفة، وأركز هنا على مفردة النخبة المثقفة، في الدول المتخلفة، منها بلدنا هذا….
التركيز أعلاه على المفردتين، المواطن والنخبة المثقفة، لأن المواطن في بلدنا لا يقرأ بتاتا، بينما في العالم الغربي، المواطن هو من يشكل لحمة النقاش العمومي الفكري، والنخبة المثقفة في بلدنا مسلوبة الفكر، بين قراءات دينية سطحية وأخرى عروبية مؤدلجة ودون قواعد فكرية متينة….
لا يمكن الانكار أن ما وصل إلى هذه النخبة من أفكار نيتشة كان محرفا ومشوشا حد التزوير، إذ لا غرابة أن تجد مناضلا في اليسار يعيب على نيتشة رجعيته وانخراطه في تأسيس النازية الألمانية، مستندا في ذلك على قراءة هيتلر وأتباعه لكتاب إرادة القوة والذي كان فرديريك قد توقف عن كتابته قبل مرضه بسنين وعمدت أخته اليزابيت إلى إتمامه وتحريفه ونشره بعد موته بأكثر من سنتين (الطبعة الأولى لهذا الكتاب في 1902) مع ما عرف عن أخته من أفكار مرتبكة وحس انتهازي وتجاري بمأساة أخيها….
والحقيقة التي يجب أن يطالعها منتسبوا اليسار هي مواقف فريديرك نيتشة من الذهنية الألمانية وهجومه اللاذع لمعاديي السامية وهي مواقف بالتأكيد كانت ستزج به في المعتقلات والمحارق لو عاش في زمن هتلر… دون أن نحمله مسؤولية اعجاب هذا الأخير بمؤلفاته وتوزيع كتاب “هكذا تكلم زرادشت” على جنوده…
عليهم الاطلاع أيضا على الخط الموازي الذي جمعه بكارل ماركس، وهو تنبؤه بانهيار العالم الرأسمالي، فقط ماركس تنبأ بذلك بشكل حالم، عبر حسم الصراع الطبقي وانتصار البروليتاريا وإقامة مجتمع اشتراكي أو شيوعي ينتفي فيه التناقض ويعمل فيه الجميع لما فيه مصلحة الجميع، وهذه يوتوبيا لا تختلف عن مآلات بائعي الوهم والأحلام، رجال الدين، كما سماهم نيتشة في كتابه “هكذا تكلم زرادشت” بينما هو تنبأ بأفول النظام الرأسمالي لشيوع مفهوم مدمر للديمقراطية يساوي بين الجميع ولا يترك فرصة لارتقاء الانسان القوي، هذا الأخير الذي لن يتحقق إلا بانتخاب قيم محفزة للحياة تختلف عن القيم الهدامة للحياة والتي من بينها الديمقراطية في شكلها الغربي، والدين بتعاليمه الأخلاقية المبنية على التسامح والخير والايثار وغيرها وهي قيم هدامة للحياة وللنظام الرأسمالي الذي نعيش في كنفه….
يبقى في الأخير الموقف من المرأة، والذي يؤاخذ عليه نيتشة، إذ كتب في “هكذا تكلم زرادشت” وعلى لسان عجوز يصادفها في رحلته للبحث عن مرافقين له”أنه لا يمكن التوجه إلى المرأة إلا والسوط في يديك” وفي مؤلف آخر، أن المرأة مثل البقرة، وأن وظيفة المرأة هي الولادة والثكاثر.
مع أنه يجب وضع كتاباته ومواقفه حول المرأة في سياقها التاريخي والاجتماعي، فحتى رواد الفكر الحديث مثل سيغموند فرويد كتب أنه رغم بحثه في نفس الأنثى لما يزيد عن الثلاثين سنة، لم يستطع الاجابة على سؤال: ماالذي تريده المرأة؟ وما كتبه كارل ماركس عن المرأة لا يتعدى رسائل غرامية لمعشوقته أو كتابات تدمج الحركة النسائية في صلب الحركات الاجتماعية الهادفة إلى التغيير….
في الولايات المتحدة الأمريكية ظهرت حركة نسائية تطالب بحق المرأة في التحكم في رحمها، ولادة واجهاضا، بما أن دورها، في ارتباط بفكرة نيتشة، هو الولادة، فلها وحدها الحق في تحديد شروط لعب هذا الدور….
دون اغفال وضع هذا الموقف داخل تجربته الشخصية، في ارتباط بخيباته في نسج علاقات دائمة ومستقرة بالنساء…..
سيبقى لنا يسار معطوب، ونخبة سطحية، ما لم يتم وضع اهتمامنا الفكري على سكة النقاش العالمي الدائر حول نيتشة وإرثه الفكري، وقراءة هذا الفكر من منظور يرمي تقدم الانسان ومن خلاله الشعوب….

التعليقات مغلقة.