مقولة (السياسة فن الممكن) ليست صحيحة على الإطلاق، فقد تكون مخادعة ومظللة في حالة توظيفها من طرف أنظمة ونخب سياسية لتبرير عجزها وفسادها، والزعم بأنه ليس في الإمكان عمل أكثر مما نقوم به، وبالتالي تقطع الطريق على من يطالب بتغيير الواقع أو السعي إلى ما يجب أن يكون.
المقولة تكون صحيحة إن كان الممكن مجرد خطوة في الطريق نحو ما يجب أن يكون، وفي الحالة الفلسطينية هناك من يتجاهل الممكن ويريد القفز مباشرة إلى ما يجب أن يكون، وهناك من يريد تحويل الممكن إلى نهاية المطاف.
ولأن الوضع الفلسطيني الداخلي متوتر وملتبس والانقسام عم، حتى شوه الفكر والتفكير العقلاني وبات الكل يشك بالكل لدرجة إعماء البصر والبصيرة عن رؤية منجزات، أو بقعة نور وسط ظلام الواقع يحققها الشعب بصموده وصبره ومواجهته للاحتلال، أو رؤية أعمال إيجابية أو مفيدة يقوم بها المنافس أو الخصم السياسي الداخلي، فالمعارضون للسلطة وفصائل المقاومة لا يرون أي شيء إيجابي فيما تقوم به السلطة، وهذه الأخيرة ومناصروها لا يرون أي شيء إيجابي فيما تقوم به المعارضة والأحزاب وفصائل المقاومة، والجميع يخلطون ما بين الممكن وما يجب أن يكون وما بين الحسابات الحزبية والمصلحة الوطنية العامة بحيث باتت الأولى سابقة في الأهمية للثانية.
مع تأكيدنا على ما سبق، وما كتبناه وتحدثنا عنه طويلاً فيما يتعلق بأزمة النظام السياسي، وتَحمُل الأحزاب السياسية، والسلطتان القائمتان في غزة والضفة جزءا كبيرا من المسؤولية عما وصلت إليه القضية الوطنية من انهيار، إلا أن ذلك يجب ألا يعمي البصيرة لدرجة تجاهل بعض الإيجابيات فيما تقوم به السلطة بكل وزاراتها ومؤسساتها في مجالات التعليم والاقتصاد والثقافة والشؤون الاجتماعية والدبلوماسية الخ، وكذلك ما تقوم به المعارضة من فعاليات وطنية وترويج خطاب المقاومة وتحشيد الرأي العام وتحريضه على الاحتلال الخ، وهذه ليست إنجازات سلطة وأحزاب بل تحققت بفضل نضالات الشعب ومعاناته، فالشعب دفع ويدفع الكثير من دماء أبنائه ومعاناتهم مقابل هذه (الإنجازات)، والبعض يسميها (الانتصارات). فلماذا لا تُستثمر هذه (الإنجازات) أو (الانتصارات) للبناء عليها من أجل تحقيق المصلحة الوطنية العامة، بدلا من توظيفها لتضخيم الذات الحزبية وتكريس الأمر الواقع؟ وأين تكمن المشكلة؟.
في اعتقادنا أن هناك خلطا ما بين الممكن الحزبي، وما يمكن تحقيقه ضمن موازين القوى الراهنة، والحالة السائدة، من جانب، وما يجب أن يكون في حالة التوظيف الجيد لمقدرات الشعب وتغيير الطبقة السياسية النافذة، من جانب آخر. يمكن قبول ما تقوم به السلطة والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني في إطار الممكن عمله في ظل الاحتلال، وبشروطه أحياناً، ومع إدراكنا للثمن الفادح الذي يتم دفعه مقابلها، مثل، أن جزءا كبيرا من هذه المهام تقع على عاتق الاحتلال ومن مسؤوليته، ولكن ما هو اخطر من ذلك أن تتوقف الأمور عند هذه (الإنجازات) باعتبارها الممكن الوحيد الآن، أو يتصرف البعض وكأن هذا الممكن هو نهاية المطاف، وليس في الإمكان خير مما كان ومما هو قائم، وأنه بالممكن الراهن تم إنجاز المهمة الوطنية، وبالتالي تجاهل ما يجب أن يكون وهو إنهاء الاحتلال.
أيضا يمكن قبول ما تقوم به حركة حماس وفصائل المقاومة الأخرى من أعمال حربية انطلاقا من قطاع غزة بانها تندرج في سياق إعمال حق الشعب الفلسطيني بمقاومة الاحتلال، ولكن الخطورة أن تعتبر فصائل المقاومة أن ما تقوم به هو المقاومة الوحيدة الممكنة، وأن قطاع غزة يمثل نموذجا للمقاومة الناجحة، وأنه في كل مواجهاتها مع العدو حققت انتصارات عظيمة، وأن الوضع القائم في غزة هو نهاية المطاف وليس مطلوبا منها إعادة النظر في ممارساتها أو التفكير بطرق أخرى للمقاومة، متجاهلة أن المقاومة الفلسطينية كانت قبل وجود حركة “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، وأن حالة المقاومة في قطاع غزة وعموم فلسطين كانت أفضل وأكثر جدوى مما أصبحت عليه بعد سيطرة “حماس” على القطاع وصيروتها سلطة بكل ما تعنيه كلمة سلطة، وأنه لا مقاومة من أجل المقاومة فقط، بل هي مقاومة من أجل الحرية والاستقلال، والسيطرة على قطاع غزة ليس نهاية المطاف..
للأسف فإن البعض في السلطة والمعارضة يريد أن يحوِّل ما هو ممكن، أو الممكن الذي يسمح به الاحتلال، أي الواقع القائم، إلى انتصارات يتم ترويجها لتصبح بديلاً عما يجب أن يكون، وهو الاستقلال التام واستحقاقاته، وبهذا تتحول السلطة إلى نهاية المطاف، ويصبح كل من يناضل لتحقيق ما يجب أن يكون، أو يطالب بتغيير الواقع من خلال التصدي للاحتلال مخالفا للقانون، ومثيرا للفتنة الخ، وفي المقابل تتحول دولة غزة وسيطرة حماس عليها إلى نهاية المطاف ونهاية مشروع المقاومة، ويصبح كل من يعارض هذا الواقع أو ينتقد تصفية المقاومة في غزة، بالهدنة والتفاهمات السرية وكأنه عدو لحماس بل وعدو للمقاومة.
إن بقيت الأمور عند حدود ما تعتقد السلطتان بأنه الممكن، فهذا يعني تصفية القضية الوطنية، وخصوصا أن شهية إسرائيل للتوسع لا حدود لها، وقد تُعطل أو تلغي هذا الممكن أو (الإنجازات) إن وجدت أن الدور الوظيفي للسلطتين انتهى، ولذا المطلوب سرعة تحويل هذا الممكن إلى مرتكز يتم البناء عليه للوصول إلى ما يجب أن يكون وهذا يحتاج إلى استراتيجية وطنية شمولية وإلى نخب سياسية جديدة.
إن كانت دواعي الوحدة الوطنية متعددة فإن لقاء النقب يومي 29/30 مارس الذي جمع وزراء خارجية أمريكا وإسرائيل والدول العربية المطبِعة مع “إسرائيل”، وأحداث المسجد الأقصى في العشرين من هذا الشهر حيث حاول المستوطنون المدعومون من الجيش والحكومة اقتحام المسجد الأقصى وتقسيمه مكانيا وزمانيا، وهي أحداث لم تحرك ساكنا عند الأمتين العربية والإسلامية، يُنذر بدخول المنطقة إلى حقبة جديدة تقودها “إسرائيل” مما يعني القضاء النهائي على المشروع السياسي الوطني الرسمي بشقيه: دعاة المقاومة ودعاة الحل السلمي.
التعليقات مغلقة.