أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

متحف الشعر العربي : النار الحلوة

أحمد بوزفور

 

كأنَّ على لَبَّاتها جمرَ مُصْطَلٍ

أصاب غَضأً جَزْلاً وكُفَّ بأجذالِ

وهبَّتْ له ريحٌ بمختلف الصُّوَى

صَباً وشَمالٌ في منازل قُفَّالِ……….. امرؤ القيس

 

إنها لوحةُ المشبه به. يقول البلاغيون إن وظيفة المشبه به هي خدمة المشبه، بتحديده أو وصفه أو على الأقل تقريبه. أما في هذه الصورة، وفي صور أخرى كثيرة في الشعر العربي القديم، فإن المشبه هو الذي يخدم المشبه به. المشبه به هو السلطان، وهو المركز في الصورة، كأن المشبه ( وهو هنا: المرأة، أو صدرها بعبارة أدق ) لم يكن إلا طريقا للوصول إلى المشبه به: ( النار ). لأنها نار غريبة:

ـــ فهي أولا: جمر ( لا دخان فيها )، وهي جمرُ مُصْطَلٍ، أي مقرور يتدفَّأ، وهذا المصطلي مطمئن إلى أن هذه النار لن تخمد، فقد صادف، وهو يجمع الحطبَ، أعواداً من شجر الغَضَا، وخشبه صلب، وناره طويلة العمر، وهو لم يصادف من الغضا أعوادا فقط، بل وجد معها أجذالاً، أي جذوعا أو أصولا عظيمة ( والجِذْل هو ما تتحكك به الدواب من الشجر: أنا جُذَيلُها المحكك، يقول المثل ).

ثم إن هذا المصطلي لم يسعده الحظ بالحطب فقط، بل هبَّت له ريح مختلفة الهبوب، تساعد على تأجيج النار ( والصُّوَى هنا: الأرواح المختلفة المترددة على مكان واحد من مختلف الجهات ). تهب ريح الصَّبا من الشرق تارة، ثم تهب من الشمال ريح الشمال تارة أخرى… وهكذا.

وأخيرا فإن هذا المصطلي راجع من سفره، وهو في الطريق إلى أهله ( في منازل قُفَّالِ )، وهو يصطلي ويرى في النار وجوه أحبابه الذين يتشوق إليهم.

يقول القدماء: الشعر ديوان العرب، وهم يعنون أنه سجلُّ حياتهم وعاداتهم وأفكارهم. ولكن الشعر الحقيقي في دواوين العرب ــ يبدو لي ــ هو سجل أخيلتهم وأحلامهم، وليس سجل عاداتهم واقيمهم وأفكارهم… هو ديوان المشبه به لا المشبه. وهذه النار الغريبة هنا ليست النار التي نعرفها..إنها أشبه بنار مجوسي تقي: ( مجهولة ومحبوبة ومقدسة ) وليس كلُّ نارٍ ناراً على أي حال:

( أَكُلَّ امرئٍ تحسبين امرَأً؟

ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا؟ )

يقول أبو دواد الإيادي

التعليقات مغلقة.