مقال رأي
طبقا لأحكام القانون التنظيمي لقانون المالية، بعث رئيس الحكومة مؤخرا إلى فريقه المذكرة التوجيهية لإعداد مشروع قانون المالية لسنة 2024، والتي حدد فيها أولويات الميزانية القادمة، وأعطى فيها توجيهاته من حيث الإنفاق، وبالتالي رسم الحدود التي يجب أن يُخضع لها أعضاء الحكومة مقترحاتهم التي سيتم تقديمها لتقدير مديرية الميزانية.
عند قراءة هذه الوثيقة، التي تسمى عمومًا “المذكرة التأطيرية”، يمكننا أن نؤكد بكل موضوعية أنها لا تختلف عن سابقاتها سواء من حيث الأولويات أو من حيث التدابير الملموسة المعلنة. وهذا لسبب بسيط يكمن في كون الحكومة تعتقد بأنها على السكة الصحيحة وأنها عملت بشكل جيد حتى الآن، لذلك فهي لا تتردد في التعبير عن رضاها. والنبرة مستوحاة من الصفحة الأولى “لقد نجحت الحكومة، تحت القيادة المتبصرة والحكيمة لصاحب الجلالة نصره الله وأيده، في مواجهة هذه الضغوط وفي تدبير هذه الأزمات المتلاحقة والحد من تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، عبر سياسة فعالة تقوم على بعدين متكاملين، أولهما ينبني على مواجهة الاكراهات الظرفية وتقليص آثارها المباشرة على الاقتصاد الوطني وعلى المستوى المعيشي للمواطنين، وثانيهما هيكلي طويل الأمد يقوم على المضي قدما في تنزيل الإصلاحات الضرورية لتحسين ظروف عيش المواطنين، وتحقيق معدلات نمو أكبر، لخلق المزيد من فرص الشغل، مع استعادة الهوامش المالية الكفيلة بتوفير التمويل الضروري لهذه الإصلاحات ”. ومثلما لا نغير فريقًا فائزًا، لا نغير سياسة تؤتي أكلها أيضًا! وبالتالي، تعتزم الحكومة الاستمرار في إدارة شؤون البلاد بهذه الطريقة.
وانطلاقا من روح هذه الاستمرارية، وتطبيقاً للتوجيهات الملكية المعلنة في خطاب العرش الأخير وانسجاما مع أسس البرنامج الحكومي، تحدد المذكرة الإطار أربع أولويات لمشروع قانون المالية المقبل لسنة 2024 وهي: توطيد تدابير مواجهة التأثيرات الظرفية، ومواصلة إرساء أسس الدولة الاجتماعية، ومتابعة تنزيل الإصلاحات الهيكلية، وتعزيز استدامة المالية العمومية.
وتتجسد هذه الأولويات تباعاً في شكل إجراءات، بعضها دقيق ومحدد في شكل أرقام، وبعضها معبر عنها في شكل نوايا حسنة ووعود قد لا تتحقق. وبالنسبة للجزء الأكبر منها، فهي تدابير وبرامج قيد الإنجاز بالفعل.
وهكذا، على مستوى المحور الأول، فإن الأمر يتعلق بشكل أساسي باستراتيجية “الجيل الأخضر” التي أعقبت مخطط المغرب الأخضر والتي استمرت الحكومة في التمسك بها، كما فعلت على هامش المعرض الدولي للفلاحة بمكناس حيث وقعت على 19 عقد-برنامج في هذا الإطار. الأمر يتعلق أيضًا بمسألة حيوية لبلادنا، ألا وهي الخطة الوطنية للمياه 2020-2027 والتي رصد لها غلاف مالي يناهز 143 مليار درهم.
أما المحور الثاني الذي يتناول الأولوية الثانية المتعلقة بالدولة الاجتماعية، فيعالج إشكاليات ذات حساسية كبيرة من قبيل الحماية الاجتماعية والتعليم والتشغيل والسكنى. المجال الوحيد الذي نتوفر فيه على مؤشرات موثوقة ويمكن التحقق منها وقابلة للقياس نسبيًا هو مشروع الحماية الاجتماعية. وذلك لسبب وجيه! وبخصوص التعليم بجميع أسلاكه، فلا تزال النتائج الملموسة والمشجعة في الانتظار. إذ يعاني نظامنا التعليمي من عدد كبير من الإصلاحات وتعقيداتها. فبدلاً من اتباع المسار المعتاد الذي ينبني على الانتقال من الأبسط إلى الأكثر تعقيدًا، فإننا نلاحظ أننا نسير في اتجاه معاكس. وهذا يفسر فشل الإصلاحات والاستراتيجيات المختلفة التي تم وضعها منذ ميثاق العشرية حتى الآن.
ويمكن ملاحظة نفس الفشل في التشغيل، إذ على الرغم من أن الحكومة تواصل التركيز على فوائد البرنامجين “أوراش” و”فرصة”، إلا أن النتائج لا تظهر في أرقام التشغيل والبطالة (انظر آخر منشورات المندوبية السامية للتخطيط).
أما في فصل “الإصلاحات الهيكلية”، فقد انصب التركيز بشكل أساسي على تشجيع الاستثمار من خلال تفعيل ميثاق الاستثمار الجديد وصندوق محمد السادس للاستثمار. والهدف هو تجسيد التوجيهات الملكية المتمثلة في تعبئة 550 مليار درهم من الاستثمارات وخلق 500 ألف منصب شغل خلال الفترة الممتدة من 2022 إلى 2026. كما تشمل هذه الإصلاحات التحول البيئي بهدف إنتاج 52% من الكهرباء بواسطة الطاقة المتجددة في أفق سنة 2030.
أخيرًا ، فيما يتعلق باستدامة المالية العمومية، تشير المذكرة إلى تدبيرين مهمين: إصلاح القانون التنظيمي لقانون المالية من خلال اعتماد البرمجة المتعددة السنوات ودمج المؤسسات العمومية. واستمرار تنزيل القانون الإطار المتعلق بالإصلاح الضريبي، عبر إصلاح الضريبة على القيمة المضافة ودمج القطاع غير المهيكل. بالطبع، لا يمكن لأحد أن يعارض هذه الإجراءات بشكل مطلق. لكننا سننتظر لنرى بوضوح أكثر محتواها ومسارها قبل أن نحكم عليها بطريقة أو بأخرى، لا سيما فيما يتعلق بموضوع الضريبة على القيمة المضافة، التي يكون إصلاحها مشروطًا بالأهداف التي سنحددها. ونأمل طبعا أن يسير هذا الإصلاح في اتجاه المزيد من العدالة الضريبية ودعم القوة الشرائية للمستهلكين وفي المقام الأول المستهلكين من الطبقات الشعبية.
تسعى الحكومة إلى تحقيق هدف تقليص عجز الميزانية. ونحن نؤيدها بالكامل، حتى لو كان ذلك فقط للحفاظ على استقلالنا والحد من اللجوء إلى السوق المالية الدولية. ولكن هناك العديد من الطرق لتحقيق ذلك دون اللجوء المفرط إلى الوصفات الليبرالية التي أكل الدهر عليها وشرب. لقد حان الوقت، إذا أردنا أن تنتقل بلادنا إلى مرحلة أعلى من تطورها وفق الرغبة التي عبر عنها الملك، لمراجعة أنماط تفكيرنا وطرق تدبيرنا. إن مشروع قانون المالية الذي تطبعه الجدية ليس بأي حال من الأحوال ترفًا. فهو ضروري لتمكين بلادنا من السير قدمًا على طريق التقدم واحتلال المكانة التي يستحقها في عالم يتغير بسرعة. (ترجمه للعربية عبد العزيز بودرة)
التعليقات مغلقة.