سبتة: مصطفى مُنِيغْ
منذ وصولي إلى الحبيبة مصر ولهفتي تزداد لزيارة ريفها للاختلاط بأناسها وفلاحيها الكرماء الشرفاء، الممزوج عرقهم الطاهر بتربة معطاء، بالفعل تمكَّنتُ من ذلك إذ انتقلتُ صحبة الأستاذين أحمد عبد المومن بحيري ومحمد سعيد أبو زيد، إلى قرية “كفر الشُرفا الغربي”، التابعة للوحدة المحلية لقرية “المنيرة”، بداية طرقنا باب قصر الثقافة للحرف البيئية، الذي بناه المهندس الشهير الراحل حسن فتحي، فاستقبلنا مديره الأستاذ محمد أمين قطب بالترحاب، مصرِّحا:
نتواجد الآن في قاعة عرض، أو الصالة المتعدِّدة الأغراض، بحيث تتحوَّل أحياناً لمكتبة متنقلة، وأخرى لاستقبال الضيوف المشاركين في الندوات العلمية المقامة هنا، وأيضا تستعمل كمسرح أو سينما شتاء إذ هناك سينما صيفية خارج المكان، القصر مُشيَّد كله بالطين لا غير، من طرف المهندس المعماري حسن فتحي، وهو بناء تتجلى ميزاته في محاكاة بيوت الفلاحين المشيدة بالطين الممزوج بالتبن المتبقي من عمليات تصفية القمح، طين اللبن المبني به القصر يحيل الرطوبة أثناء فصل الصيف إلى جو بارد، عكس ذلك في فصل الشتاء حيث تتولَّد عنه حرارة معينة تحول الداخل إلى مكان دافئ، بمعنى التكييف التلقائي الطبيعي، كما تلاحظون الجو بارد في الخارج وهنا تشعرون بالدفء نتيجة تفاعلات طين اللبن مع المناخ السائد، حتى الجدران معمولة بسماكة تمتص الحرارة والرطوبة معا وفي نفس الوقت.
… يستمر الأستاذ محمد أمين قطب في شرحه القيم ونحن نتجوَّل داخل هذه التُّحفة المعمارية الفريدة من نوعها، حتى إذا وصلنا إلى الفناء بادرنا بقوله: نحن الآن في “البَاسِيُّو”. شدَّتني الكلمة المأخوذة من اللغة الاسبانية ومعناها الممرّ، وأتساءل من أتى بها لتُستعمَل بهذا الشكل هنا؟، شيء يحتاج إلى دراسة حقا، “الباسيو” هذا تتوسَّطه نافورة نُعقد حولها ندوات وبعض الاجتماعات، خاصة في فصل الصيف لِما يتمتَّع به الفضاء من جوٍّ شاعريّ. المساحة الداخلية للقصر تتوزع على غُرفٍ مخصَّصة لتعلٌّم الخياطة وصناعة الحصائر وأصناف أخرى لها علاقة بمسألة الحفاظ على التراث الذي يعتزّ الإنسان المصري بالتشبّث به من قديم الزمان، يستطرد الأستاذ قُطْب قائلاً: قصر الثقافة للحرف البيئيَّة هذا، يُعدّ مزاراً لكبار الضيوف العرب والأجانب.
… نلج مباشرة إلى قسم الحصير، حيث نلتقي بالحاج عبد الرحمان القيِّمِ عليه، وبكل مشاعر الطيبوبة الصادقة نتصافح والرجل الكريم، الذي رغم مظهره البسيط يخفي شخصية قوتها تكمن في تعلّقه بمصر، تعلّقاً لا تصفه الكلمات ولا قصائد الشعراء، بل إحساس ملتصق بالإيمان والصفاء وحب الخير للجميع، تعلقاً يجسِّمه العمل المكثف لضمان استمرارية الأصالة المصريَّة في أفئدة ناشئة تلتف حوله مهيَّأة للاستيعاب، حتى يظلَّ الحاج “عبد الرحمان” ومن خلاله مصر، في أعين الجيل اللاحق أحلى صورة لأحلى وطن، وبلغة سلسة وأدب جمّ ولسانٍ فصيح يخاطبنا “الحاج عبد الرحمان”:
– الآن نحن داخل قسم الحصير الذي أنشأناه أنا ووالدي منذ سنة 1965 على عهد الرئيس “جمال عبد الناصر” وموازاة مع نشأة هذا القصر. القسم يُتخذ لتدريب الناشئة على صناعة الحصير المرسومة فيه لوحات من الفنون التشكيلية كما ترون من النماذج المعروضة على الجدران ، تمكَّنتٌ من تدريب ما يمكّن حاليا من إعالة أربعين أسرة فما فوق ، والمهنة ذاتها حسنة خاماتها من البلد “كالسمار”، لا نستورد من أجل الاشتغال في حقلها أي شيء من الخارج ، الخامات متوفرة عندنا وهذا يدلّ أنها قابلة لضمان عيش كل المتعاملين في مجالها ، حتى المعاقين منهم ، القسم مفتوح أمام الجميع ومستعدّ لتدريب العناصر الراغبة في تعلّم المهنة ، منتجاتنا التي تشاهدون قسطاً منها شاركنا بها في معارض مختلفة بمجمل البلاد الأوربية ونعتز بأننا نحظى بالحصول على الرُّتب الأولى في كل منافسة مقامة هناك ، مخصَّصة لاختيار أحسن إنتاج .
نعمل يا أستاذ مصطفى مُنِيغْ ما في وسعنا حتى لا تنقرض هذه الصنعة ، ممَّا يجعلنا نشجّع الأولاد وندربهم على تقنياتها ، ولا تفوتني الفرصة هنا لأشكر وزارة الثقافة التي أتاحت لنا إقامة الأقسام الفنية المختصّة هنا ولسيادتك الأمر في طرح أي سؤال في الموضوع ، قالها الحاج عبد الرحمان بثقة المتمكّن الواعي بثقل المسؤولية التي يتحمّلها كمربي لأطفالٍ على صنعة لها مكانتها الخاصة عند غالبية الفلاحين ، ولها عشاقها في مختلف بقاع العالم ،ولها جذورها الضاربة في أعماق المقومات الحضارية ، وهذا ما جعلني أستزيد من الاستماع لهذا الخبير الأصيل حينما سألته:
-أرى الرسومات المنسوجة على الحصائر ترمز إلى العهد الفرعوني، فهل أعمالكم التشكيلية تنحصر في نفس الاتجاه دون غيره، أم ثمة أشكال أخرى؟
– بالعكس نسجل حتى الأحداث الشهيرة بابتكارنا أشكالا تخلِّدها، بالنسبة لهذه اللوحة مثلاً المجسمة أحداث الخليج وما وقع بين الكويت والعراق، هنا السعودية قائمة هي الأخرى بالإضافة إلى القوات الدولية، باختصار اللوحة تتشكل من رموز تجسّد ما حصل أثناء حرب الخليج، بالنسبة للوحات الأخرى (الملفوفة كانت فتم فتحها) كهذه المفسرة شعار القراءة للجميع ، وهذه لسيدة تحيا بعقلية متأخرة لا تقرأ ولا تكتب وتمسكا بمبدأ القراءة للجميع انصرفت للتعلّم ، البريق يرمز لوسيلة تنظيف نفسها من ويلات الجهل ، وهذه لوحات يُفهم منها التصوّف وتعدد المذاهب مع تنوع المشايخ تجمع ما بينا أصحاب الطرق الصوفية أمثال سيدي إبراهيم الدسوقي وسيدي أحمد الرفاعي وسيدي أحمد البدوي وسيدي عبد القادر الجيلالي ، أما هذه اللوحة كما تشاهد سيادتك اللحظة والتي لم تُكتمل بعد تعتمد تعويض البساط (السجاد) معمولة بأشكال هندسية متميزة ، أحيطك علما أستاذ مصطفى منيغ أن مضامين اللوحات وشكلها من ابتكاراتنا التلقائية العفوية.
– الحصير يُنتَج لتستفيد الأسر داخل بيوتها من خدماته كفراش أم مجرد زينة تُعرض ليتفرج عليه الزوار؟.
– في البداية كان الاستخدام كفراش لكن مع التطور اقتحمت المواد المُصنعة الأخرى البيوت فأصاب المنتوج ما أصاب من فتور الاستعمال ، لكن مع معرفة حقيقة جودة المنتوج وتكيفه مع الجو حراً كان أو بارداً استعاد الاستخدام اعتباره داخل نفس البيوت ، حتى الأثمنة غدت مناسبة ، مثلا المتر من “الأبيض” يكلف ما بين أربعة إلى خمسة جنيهات ، أما الحصير المزين بلوحة تشكيلية فكل وثمنه ، الحصير ذو الرسم المجسِّد لحرب الخليج ، أشعِرتُ أن سائحاً أجنبياً أراد أن يبتاعه بمائة دولار لكنني رفضت ، مفضلا أن يبقي كتراث لمصر ، هذا المنتوج يُعتبر تراثا مصرياً وأنا لا أبيع تراث بلدي ، فهو ملك للدولة ولستُ سوى موظف أتوصَّل براتبي الشهري وأنا مطمئن 24 “قيراطاً”، حاليا أقوم بتدريب ستة أولاد ، حضورهم المستمر يجعل منهم تلاميذ رسميين ، قد يستغرق التدريب شهوراً أقصاها حسب نباهة كل واحد وقدرته على الاستيعاب ، المتخرِّج من هنا يصبح فناناً تشكيليا وليس صانع حصير فقط .
… نطلب من الحاج عبد الرحمان كلمة يوجِّهها إلى زملائه الصناع التقليديين المغاربة فيقول باندفاع بريء وعبارات نابعة من قلب كبير:
أوصِي الصانع التقليدي المغربي بعدم أخذ رسومات غيره ويعتمد على ابتكاراته التقليدية وألا يقلِّد أحدا، وأن يعيش مع اللوحة التي يشتغل فيها أو ينتجها بجوارحه وعقله ليكون عمله في المستوى وملائم لكل الأذواق، ومن كرم الله سبحانه وتعالى أن جعل لكل بلد عربي حضارة لن تندثر أبدا. بالنسبة للبلاد العربية سواء كانت المغرب أو مصر أو دول الخليج، الحضارة موجودة داخلها، أما أوربا فسارقة لهذه الحضارة منا نحن الأمة العربية، هذا الكلام مصدره الواقع وليس تخيلات، فأنا رجل أبلغ من العمر 55 عاماً ومسؤول عنه، لذا أُوصي جميع الحرفيين بالسهر على تنمية هذه الحرف المرتبطة أساساً بصلب الحضارة القديمة والتراث الذي نفخر به، وإذا علمنا أن جميع الأمم تتباهى بالحرف اليدوية المتاحة عندها، علمنا بأهمية هذه الحرف عندنا.
… كم كنتُ سعيداً وأنا أعانق الحاج عبد الرحمان، هذا الرجل الشهم الذي أعجبتُ بإصراره على تمثيل عينة أصيلة من الريف المصري بما يمكن هذه العينة من الاحترام والتقدير وبما يضفي عليها من هالة لن يقدر الزمن على زحزحة ولو ذرة بسيطة من إشعاعاتها القوية النيرة، وكم سررتُ وهو يقدم لي طفلاً ممّن تلقوا تداريبهم بذات القسم، سبق وشارك في منافسة دولية لاختيار أحس منتوج مصنع يدوياً، أُقيمت في دولة “التشيك” وفاز فيها بالرتبة الأولى. (يتبع)
الصور: مصطفى منيغ رفقة الأساتذة أحمد عبد المومن بحيري ومحمد سعيد أبو زيد ومحمد أمين قطب بمدخل وداخل قصر الثقافة بفرية المنيرة.
التعليقات مغلقة.