من علو حوالي ثلاثمائة متر على ملتقى بحرين بمكانة وأسطورة خاصة في زمن المغرب تطل منذ أزيد من قرن ونصف، معلمة بشموخ وهيبة بحرية تشويرية خاصة كانت ولا تزال بصدى بحري دولي رائد بأقصى شمال البلاد، حيث حوض البحر المتوسط الغربي ومضيق جبل طارق وطنجة، وما هو عليه موقع هذه الأخيرة من إحالات شاهدة على عبق مكان وحضارة إنسان، فضلا عن مساحة تجويفات بهوية سحر ممتد من قبيل”هرقل”.
تلك هي منارة “رأس سبارطيل” بطنجة التي تضفي وقعاً خاصا بسلطتها الرمزية على جوار بر وبحر، باعتبارها واحدة من أقدم منارات العالم وأول منارة بحرية تشويرية مغربية. علما أنها شهدت جملة تغيرات منذ إحداثها وكذا اضافات بعد فرض الحماية على البلاد مطلع القرن الماضي، من قبيل تثبيت جهاز بصري لتوفير نظام متكامل لعدسة ضوئية بسعة أكبر، فضلا عن آخر يستعمل استثناء بأجواء غائمة وآخر مساعد لسفن عابرة على تحديد موقعها.
علما أن قصة هذه المعلمة البحرية المغربية تعود لسنة ألف وثمانمائة وستين، إثر حادثة غرق سفينة غير بعيد عن طنجة كان ضحيتها مائتين وخمسين قتيلا، لعلها الواقعة التي دفعت قوى بحرية دولية كبرى آنذاك لمطالبة المغرب ببناء منارة في هذا المكان. وهو في ظرفية حرجة خلال منتصف القرن التاسع عشر إثر معركة إيسلي وتطوان، تم استغلال ما انتهت إليه للضغط من أجل توفير أمن ملاحة بحرية دولية بمضيق جبل طارق عبر بناء هذه المنارة على سواحله الغربية.
هكذا كانت المسألة بتدخل دولي من قِبل قناصل طنجة خاصة ممثلي بريطانيا والولايات المتحدة ثم فرنسا التي كانت بحرص خاص على هذا المطلب، لِما شهدته تجارتها خلال هذه الفترة من اتساع عبر البحر الأبيض المتوسط بشكل تزامن مع حفر قناة السويس.
وقد اضطر المخزن المغربي لقبول إحداث هذه المنارة مطلع ستينات القرن التاسع عشر، والتي استغرق بناؤها مدة ثلاث سنوات تحت اشراف مهندس فرنسي “فرانسوا ليونس رينو، وكان بحكم تكوينه بخبرة علمية واسعة في بناء مثل هذه المنشآت البحرية سواء داخل فرنسا أو خارجها. وقد أسند بنائها بدوره للمهندس”ليون جاكي” الذي وضع لها تصميما منسجما مع طبيعة عمارة المغرب التاريخية، وجعلها ببرج مربع مع رواق وفانوس بارتفاع أربعة وعشرين متراً.
وكان الانتهاء من أشغال منارة رأس سبارطيل في خريف ألف وثمانمائة وأربعة وستين، ليبدأ نشاطها وتدبيرها من قِبل هيئة دبلوماسية جمعت الولايات المتحدة وفرنسا وانجلترا واسبانيا وايطاليا وبلجيكا وهولندا والبرتغال والنمسا ثم السويد، بمقتضى اتفاقية دولية من سبعة فصول تم توقيعها في ربيع ألف وثمانمائة وخمسة وستين، وقد نصت على أن إحداث المنارة جاء بدافع إنساني، مع إسناد إدارتها لممثلي الدول المتعاقدة طيلة المدة المشمولة بصلاحيتها، على أن لا يلحق هذا أي مساس بسيادة السلطان ولا يرفع أي علم على البرج إلا العلم المغربي .فضلا عما تضمنته الاتفاقية من تحمل الدول المتعاقدة لنفقات من خلال مساهمة سنوية مادام أن المغرب لم يكن يتوفر على أسطول بحري، مع تعهده بالمساهمة في نفقاتها وبتكلفة إصلاحها وإعادة بنائها عند الاقتضاء عندما يصبح متوفرا على أسطول حربي وتجاري.
وكان مما جاء في هذه الاتفاقية أيضا التزام سلطان المغرب بأمن وسلامة هذه المنارة من خلال تعيين هيئة حراسة من قائد وأربعة جنود، مع توفير وسائل صيانة وضمان سلامة حراس ومستخدمين بها في حالة الحرب سواء كانت داخلية أو خارجية، فضلا عن احترام الدول المتعاقدة حياد هذه المنارة والالتزام بحصتها، في حالة اندلاع حرب بينها وفيما بين واحدة منها وبين المغرب.
وفي علاقة منارة طنجة بما هو تطورات تاريخية كان عليها حوض البحر المتوسط الغربي ومعه مضيق جبل طارق، من المفيد الاشارة الى أنه في اطار ال الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، وما يمكن أن تسهم به من أدوار بالمغرب، وبعدما شاركت في مؤتمر الجزيرة الخضراء وأدركت ما طبعه من مناورات وصراعات خفية بين دول مشاركة طامعة في الانفراد به، اقترحت جملة أمور منها فضلا عن إحداث شرطة مغربية تابعة للمجلس الصحي، وهو ما رفضته فرنسا تجنبا منها تدويل القضية المغربية، هناك مقترح بناء منارة “رأس سبارطيل”، التي كانت تعرف ب”الرأس الأشقر”، ربما في علاقة بموقع “اشقار” البحري الشهير بطنجة من جهة الغرب، علما أنه ورغم قلة السفن الأمريكية التي كانت تزور الموانئ المغربية، إلا أن الدبلوماسية الأمريكية كانت ترى في المغرب مجال عبور لتجارتها في علاقتها بالبحر الأبيض المتوسط.
ومن هنا جاءت فكرة بناء المنارة لتوجيه السفن وتسهيل دخولها لطنجة زمن حكم السلطان مولاي سليمان، وهي الفكرة التي بقدر ما أثارت شكا واسعا حول نوايا الولايات المتحدة، بقدر ما تعززت بدعم انجليزي مطلع خمسينات القرن التاسع عشر، خاصة عندما غرقت سفينة انجليزية جنوب رأس سبارطيل بطنجة.
هكذا جاء إعلان بناء المنارة بعد توقيع اتفاقية مغربية اسبانية مطلع ستينات القرن التاسع عشر، وقد تضمنت في أحد بنودها انعدام الإنارة البحرية بالشواطئ الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وأن على سلطان المغرب المساهمة في تأمين الملاحة والتجارة وتجنب أخطارها، من خلال بناء هذه المنشأة مع الالتزام بالمحافظة عليها وإيقادها.
يذكر أن بداية بناء هذه المنارة من قِبل الحكومة المغربية، كانت سنة ألف وثمانمائة وواحد وستين إثر اجتماع ممثلي الدول الأجنبية بطنجة، والذي انتهى باتفاقية مغربية اسبانية في نفس السنة قبل أمر سلطاني بجلب”الماكينة” التي تزود المنارة بالاستصباح سنة ألف وثمانمائة واثنين وستين. ليتم الانتهاء منها بعد ثلاث سنوات حيث طالبت فرنسا وبريطانيا واسبانيا السلطان المغربي بضمان حيادها، وهو ما تعهد به شريطة تحمل الدول المهتمة بتحمل مصاريف العناية بهذه المنشأة.
ويسجل أنه رغم بداية اشتغالها سنة ألف وثمانمائة وأربعة وستين، فإن الاتفاق الدولي بشأنها لم يوقع سوى في شهر ماي من السنة الموالية ولمدة عشر سنوات.
مع أهمية الاشارة هنا لِما شهدته هذه المنارة البحرية من تغييرات خاصة بعد غرق سفينة بريطانية في دجنبر ألف وتسعمائة وأحد عشر، فضلا عما زاد من اهتمام دولي بهذا الجزء الترابي من المغرب.
جدير بالإشارة الى أن مرسى طنجة- الإسم الذي كان متداولاً في أواسط خمسينات القرن التاسع عشر-، كان لا يتوفر سوى على بقايا حاجز مائي قديم تركه الإنجليز منذ القرن السابع عشر، بحيث لما عاينه القنصل البريطاني”ريد” أشار الى أنه بالإمكان إعادة بناء هذا الحاجز لتوفير مرفأ مناسب من شأنه مساعدة استقبال المسافرين بالمدينة، داعيا في تقريره المخزن المغربي للتفكير في بناء منارة عند “رأس سبارطيل”، وهو ما عملت الحكومة الفرنسية ومعها قوى بحرية أوروبية أخرى على إقناع السلطان “محمد بن عبد الرحمن” للموافقة على تحقيقه، وإسناد ادارته لهيئة دبلوماسية بمقتضى اتفاقية دولية في ربيع سنة ألف وثمانمائة وخمسة وستين.
بعض فقط من ذاكرة منارة “رأس سبارطيل” بطنجة، التي تُوجت مؤخرا بلقب “المنارة التراثية لسنة 2023” من قِبل الجمعية الدولية للتشوير البحري، لتكون هذه المعلمة المغربية المنارة المغاربية والعربية والإفريقية الأولى والوحيدة التي بلغت هذه المرتبة والتتويج واللقب.
حصل هذا إثر انعقاد مجلس هذه الجمعية في دورته السادسة والسبعين بالبرازيل في الفترة ما بين 12 إلى 16 من دجنبر الجاري، مع أهمية الاشارة الى أن تتويج منارة طنجة، جاء إثر ملف متكامل تقدم به المغرب منذ حوالي سنة لنيل جائزة “المنارة التراثية”، ضمن دائرة تنافس أثثها 41 ملف ترشيح من 20 دولة عضوة في هذه الجمعية الدولية.
ولعل تتويج منارة رأس سبارطيل بهذه الالتفاتة الدولية، بقدر ما هو تثمين لمكانتها وقيمتها الرمزية ودعوة لإحاطتها بما ينبغي من عناية وصيانة ومحافظة، فضلا عن التعريف بها واستحضارها باعتبارها تراثا ثقافيا بحريا، بقدر ما يمكن أن تسهم به من موقعها إثر هذا اللقب الدولى، على مستوى ما ينبغي من حوار حضاري وتسويق ترابي ونماء سياحي وبحث علمي الخ.
وكانت منارة “كوردون” الفرنسية قد فازت باللقب سنة 2019، ومنارة “سانتا انتونيو دي بارا” البرازيلية سنة 2020، ومنارة “كاب بايرون” الأسترالية سنة 2021، ومنارة “هوميكوت” الكورية سنة 2022، وها هي منارة “رأس سبارطيل” المغربية” بطنجة تتوج بهذا اللقب سنة 2023.
التعليقات مغلقة.