أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

من نصوص تاريخ بادية تازة الوطني بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب

جريدة أصوات 

توجهت عناية واهتمامات عدد من الباحثين والمؤرخين المغاربة خلال العقدين الأخيرين، لزمن البادية المغربية ومن خلال زمن المغرب المحلي، خاصة منه فترته المعاصرة لاعتبارات عدة ومتداخلة.

 

ولعل ما حصل من أعمال علمية وتراكمات جاء متعدداً في زوايا نظرته ومقاربته للموضوع، وهو ما جعل الخزانة المغربية التاريخية عموما بنصوص وإسهامات بقدر عال من الأهمية والقيمة المضافة، نظر لِما ظل قائما من بياضات في هذا الإطار. 

ويسجل أنه مقابل أبحاث ودراسات جمعت بين وصف وتصنيف لتاريخ عدد من البوادي المغربية، توجهت أخرى على محدوديتها لقضايا ومحطات ذات علاقة بتاريخ البلاد ومنه فترة الحماية الأجنبية، في أفق فهم أهم وأوسع لأحداثها ووقائعها وتطوراتها على عدة مستويات.

ولا شك أن الباحث والمهتم بتاريخ البادية المغربية، يجد نفسه أمام غموض لا يزال يلف جوانب كثيرة من مكونات قبائلها وإسهاماتها وحضورها في تاريخ البلاد.

وكان الأستاذ علال الخديمي قد أشار في احدى أعماله العلمية، أن تاريخ القبائل المغربية في مجملها لا يزال موضوع تكهنات وأحكام مسبقة ونظريات متسرعة، علما أن تاريخ المغرب في حدود معينة هو تاريخ بادية لعبت دوراً هاماً بكل مقوماتها فيه. 

عن مقدمة جبال الريف في هذا السياق، وحول بادية تازة وذاكرتها الوطنية وإسهامات قبائلها زمن الحماية في مقاومة الاحتلال الاستعماري، يدخل كتاب “تازة على عهد الحماية قبيلة البرانس في مواجهة الاستعمار الفرنسي”، الذي صدر عن منشورات “ومضة” بطنجة.

وقد جاء في واجهته الأمامية بصورة مدمجة عن الأرشيف الفرنسي، تخص واحدة من أهم معالم شمال تازة الكولونيالية العسكرية الفرنسية، حيث مجال قبيلة البرانس ومركز تايناست في التماس تقريبا مع منطقة الاحتلال الاسباني أو ما عُرف خلال هذه الفترة الحرجة من تاريخ المغرب ب”المنطقة الخليفية”.

كتاب يصنف ضمن مجال البحث التاريخي حول البادية المغربية ومساهمتها في مقاومة الاحتلال الأجنبي، خاصة بوَادي أعالي المجال المغربي ومناطقه الجبلية الوعرة المسالك فضلا عن عزلة موقعها وهامشيتها، ومن هنا ما طبع هذا المؤلَّف من تميز واضافة.

كتاب “تازة على عهد الحماية قبيلة البرانس في مواجهة الاستعمار الفرنسي” للأستاذ عبد لسلام انويكًة، جاء معززا بتقديم للدكتور محمد الزرهوني، رحمه الله، ضمَّنه جملة إشارات محكمة عميقة في دلالاتها بعيون الباحث الأكاديمي، استحضرت سياق المؤلَّف حول تاريخ القبيلة العسكري المعاصر، وما تأسس عليه من ببيبليوغرافيا ووثائق بقيمة تاريخية هامة عن الأرشيف الاستعماري بالمغرب زمن الحماية.

وقد توزع  على ثلاث محاور متكاملة في إطار زمن منهجي تاريخي، بسطت لمحطات من تاريخ بادية تازة، بإبرازها لعدة تطورات ووقائع طبعت منطقة قبيلة البرانس منذ عقد الحماية 1912 حتى الكفاح الوطني و إعلان استقلال المغرب.

وقد انصب محتوى المؤلف على دراسة القبيلة من حيث خصائص موطنها ومجالها وسمات مجتمعها ومكونات أنشطتها، وكذا تفاعلاتها مع محيطها منذ القدم، مع تركيزه على فترة دقيقة من تاريخها، تلك التي ارتبطت بانخراطها في مواجهة التوغل الاستعماري الفرنسي بالمنطقة، وما واكب ذلك من مد وجزر في علاقة مع مكون ممر تازة، ومن شد وجذب بينها وبين فلول القوات العسكرية الاستعمارية منذ احتلال تازة، فضلاً عن تضحيات جسيمة فردية وجماعية قدمتها قبيلة البرانس في سبيل استقلال البلاد. 

وبقدر ما شكل كتاب “تازة على عهد الحماية قبيلة البرانس في مواجهة الاستعمار الفرنسي”، قيمة مضافة لفائدة تاريخ بادية المنطقة، بقدر ما يعد اضافة للخزانة التاريخية وإسهاماً متميزاً في حقل التاريخ المحلي، وقد  أورد عنه الدكتور محمد الزرهوني، رحمه الله، قائلاً: “بقدر ما لهذا التخصص من أهمية بالغة في سبيل إماطة اللثام عن قضايا وإشكاليات وتجارب بشرية مُموقعة في المجال ومُمتدة في الزمان، تخص مدنا وقرى وتجمعات بشرية ظلت مجهولة أو مغمورة لضعف الاهتمام بها أو لتهميشها… بقدر ما ينطوي على تحديات جمة على مستوى التنقيب والتأليف، لِما يعتري ذلك من صعاب تتعلق بندرة الوثائق أو قلة فرص الحصول عليها لأسباب متعددة، منها على الخصوص ضعف حركة التدوين وسيادة الثقافة الشفاهية، والميل إلى التكتم عليها أو إخفائها، لذلك فإن الباحث الراغب في اقتحام هذا الفرع من التاريخ، يجد نفسه أحيانا أمام مغامرة تتطلب منه الصبر والتؤدة والمكابدة وسعة الصدر. لعله يجمع شذرات متناثرة من المعلومات والموارد تسعفه لتحقيق مبتغاه، دون أن تشفي فضوله الفكري بالمستوى المطلوب وتروي غليله العلمي بالكيفية المتوخاة. والواقع أن مختلف هذه النقائص لم تثن عزائم ثلة من الفاعلين والباحثين عن الاضطلاع بهذه المهمة العلمية المجدية، فعمدوا إلى اقتحام عرين التاريخ المحلي، لدوافع ذاتية أو موضوعية كل حسب موقعه ووضعه ومبتغاه، واستطاعوا بفضل انخراطهم البيِّن أن يدلوا بدولهم في هذا الشأن، متجشمين عناء الصعاب ومقارعين ثقل المشاق”. 

ويعد مؤلف “تازة على عهد الحماية قبيلة البرانس في مواجهة الاستعمار الفرنسي” في محوره الخاص بالشق الفيزيائي، بمثابة جولة في جغرافيا قبيلة البرانس التي تتميز بمجال طبيعي صعب ومعقد، فرضته وعورة تضاريس الجبل وقساوة المناخ واتساع الرقعة وصعوبة المواصلات، فضلاً عن واقع عزلة نسبية في علاقة بمحيطه خاصة من جهة الشمال حيث مقدمة جبال الريف، المجال الذي جابه صاحب المؤلف لإلتقاط كلمات أو جمل أو شظايا رواية بهذا المكان أو ذاك ومن هذا المقاوم أو ذاك ممن لا يزالون على قيد الحياة.

ولا شك أن صاحب المؤلف بذل جهدا كبيراً وهو يخوض لجة البحث، حول هذه الفترة التاريخية من تاريخ مغرب الحماية وبهذه الرقعة الجبلية من الوطن، بالنظر لضعف المادة المصدرية التي لا تتجاوز في الغالب الأعم ما خلفته الادارة الاستعمارية من وثائق ومستندات، وبعض ما ورد في حواشي الدراسات الأكاديمية.

ولعله ما دفع صاحب المؤلف للاعتماد على الرواية الشفهية في توثيقه لتاريخ مقاومة قبيلة البرانس للاستعمار الفرنسي، من أجل سد الفراغات التي تقفز عليها المصادر والمراجع المتوفرة، وهو دليل على أهمية طرح سؤال مدى صدقية ومصداقية الخلاصات والاستنتاجات التي يتم الاهتداء إليها بالاعتماد فقط على المادة المصدرية الأجنبية. 

هكذا جاء مؤلف “تازة على عهد الحماية قبيلة البرانس في مواجهة الاستعمار الفرنسي”، غنياً بمادة توثيقية مستقاة من رواة عايشوا الأحداث التي تناولها، قصد انتقاء الأهم وفرز الغث من السمين وغربلة المنحاز من الرواية والمعلومات عن الموضوعي، ولانتقاء وحصر الروايات التي يمكن أن تقدم رؤية متوازنة لِما جرى من أحداث وتطورات خلال هذه الفترة الدقيقة من تاريخ الوطن.

ففي مائة وسبعين صفحة من القطع المتوسط، بسط الكتاب لجانب من تاريخ قبيلة البرانس المعاصر، عبر ثلاثة فصول؛ تناول الأول منها القبيلة في امتدادها المجالي وأصول تسميتها وتركيبتها ونمط عيشها وتاريخها، منذ فترة الأدارسة حتى ظهور طلائع القوات الاستعمارية الفرنسية الغازية الأولى على مشارف حدود القبيلة.

أما الفصل الثاني فقد خصص لمقاومة قبيلة البرانس للاحتلال الفرنسي تدريجياً، مع التعريف برموزها الذين حملوا مشعل المقاومة ما بين 1914 – 1956.

أما الفصل الثالث من الكتاب فقد استهدف ابراز رد فعل قبيلة البرانس على حدث نفي السلطان محمد بن يوسف من طرف سلطات الحماية، من خلال إعلانها النفير في صفوف أبنائها لاستنفارهم وتعبئتهم في معترك المقاومة المسلحة التي لم تضع أوزارها إلا بإعلان استقلال المغرب. 

ويبقى الكتاب بقيمة مضافة هامة للمكتبة التاريخية وتاريخ البادية المغربية المعاصر، لِما بذل فيه من جهد وما تميز به من عطاء ومبادرة وشجاعة أدبية، من أجل رصد الثقافة التاريخية الوطنية وتوثيقها ونشرها وإبرازها للأجيال الجديدة من جهة، وإبراز ما أسهم به السلف من تضحيات وما كان عليه الأجداد  من وطنية وحب ودفاع عن للوطن من جهة ثاني.

ولعل مثل هذه الكتب والمؤلفات والابحاث والدراسات حول تاريخ البلاد الوطني الذي ساهمت فيه البادية والمدينة المغربية على السواء، بقدر ما هي استحضار لذاكرة المغرب والمغاربة وتراثهم الرمزي، بقدر ما هي مكونات ومساحات مجسدة لثراء زمن المغرب وتراثه اللامادي.

التعليقات مغلقة.