لم ينل “محمد حمدان دقلو”، (حميدتي)، حظا وافرا من التعليم المدني أو العسكري، لكن صعوده السريع من تاجر إبل إلى ضابط برتبة فريق أول في السودان، ثم الرجل الثاني في الدولة، يثير الكثير من التساؤلات حوله، لا سيما الآن في سعيه للإطاحة بقائد الجيش “عبد الفتاح البرهان”.
ف”حميدتي”، الذي شارك “البرهان” في إنهاء حكم الرئيس “حسن البشير”، (1989-2019)، سبق وأن استخدمه الأخير في الإطاحة ب”موسى هلال”، أشهر قادة “الجنجويد”، الذي استعملته الحكومة في قتال المتمردين بإقليم”دارفور”.
فالوفاء ليس من شيم “حميدتي”، الذي تعامل ببرغماتية مع الأحداث، وغير تحالفاته بما يخدم مصالحه، وربط تحالفات خارجية مع عدة دول وزعماء حرب، وزج بجزء من قواته في حروب “اليمن” و”ليبيا” لصالح الغير، ناهيك عن القتال في” دارفور” ضد المتمردين.
ويكفي الإشارة، إلى أن الزعيم الروسي “فلاديمير بوتين”، استقبل “حميدتي” في موسكو، في نفس اليوم الذي أطلق فيه “عمليته الخاصة” في أوكرانيا، في شهر 24 فبراير 2022.
كما استقبله عدة قادة عرب على غرار الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي”، وولي عهد الإمارات الرئيس الحالي “محمد بن زايد”.
فلم يعد “حميدتي”، شخصية محورية في”دارفور” والسودان فقط، بل أصبح جزءا من محاور وتحالفات دولية، ووضع قواته رهن إشارة التحالف الدولي في اليمن، خاصة في “جبهة الحديدة”، وقاتل جزء من قواته إلى جانب اللواء المتقاعد “خليفة حفتر” في ليبيا، وتقاطعت مصالحه مع شركة “فاغنر ” الروسية.
وبعدما كان يقود مجموعة صغيرة من “الجنجويد” مع بداية أزمة “دارفور” في 2003، أصبح قائدا لقوات الدعم السريع، التي تضخمت من نحو خمسة آلاف عنصر عند تأسيسها في 2013، إلى نحو أربعين ألف عنصر عام 2019 بعد الإطاحة بحكم” البشير”، وتتحدث تقارير أنها أصبحت حاليا تقدر بنحو مائة ألف مسلح، مزودين بعربات رباعية الدفع مسلحة وسريعة الحركة.
رجل الذهب
وليست فقط القوة المسلحة ما جعل “حميدتي” رجل المرحلة القوي، فاستحواذه على مناجم الذهب في جبل “عامر”، بولاية شمال “دارفور”، الذي اكتشف في عام 2012، جعله أحد أبرز أثرياء البلاد، بفضل شركته “الجنيد” لتعدين الذهب، التي تديرها عائلته بعد اعتقال زعيم” الجنجويد موسى هلال “في 2017، الذي كان مستوليا على المنجم بالقوة.
وفي بلد تشكل صادرات الذهب نحو أربعة وأربعين بالمئة من إجمالي الصادرات (إحصاءات 2022)، حقق “حميدتي” وقوات الدعم السريع، نوعا من الاستقلالية المالية عن الجيش الحكومي، خاصة عقب انفصال جنوب السودان في 2011، وراح بثلاثة أرباع إنتاج السودان من البترول.
وهذه القوة المالية عززت قوته العسكرية وقدرته على تجنيد عشرات الآلاف من المقاتلين، واستفاد من دعم إقليمي بعربات رباعية الدفع بعد مشاركة قواته في القتال في اليمن وليبيا، وهو ما أدى إلى تضخم قوته حتى أصبحت أشبه بجيش مواز للجيش النظامي، لكنها تفتقد للأسلحة الثقيلة والطيران.
وتحرك قوات الدعم السريع في 2019 من” دارفور” إلى الخرطوم، ومنعها للقوات الأمنية في بعض المناطق لاستعمال القوة ضد المحتجين، رغم أنها متهمة بارتكاب فضائع ضدهم في 2018، كانت بداية لعملية إطاحة الجيش بنظام “البشير”.
ومن هذا التاريخ صعد نجم “حميدتي”، في الخرطوم، بعدما خرج من معاقله في “دارفور”، وأصبح تاجر الإبل وحامي قوافل التجارة إلى ليبيا وتشاد، نائبا لرئيس مجلس السيادة بقيادة “البرهان”.
والأهم من ذلك حقق “حميدتي” استقلالية قوات الدعم السريع عن الجيش، بعدما كان خاضعا لسلطة البشير المباشرة، لأن الأخير كان يخشى من وقوع انقلاب عليه من أجهزة الأمن والمخابرات.
هذا الوضع أدى بالبلاد أن يصبح بها جيشان؛ “الجيش النظامي بقيادة البرهان”، وهو الأكبر عددا والأكثر تسليحا خاصة بالدبابات والطيران الحربي، وقوات “الدعم السريع”، بقيادة “حميدتي”، المزودة بأسلحة خفيفة وعربات مدرعة، والمعروفة بخبرتها القتالية في حروب الصحراء وسرعة الحركة والمناورة.
وكان من الطبيعي ألا يقبل الجيش السوداني بوجود قوة موازية له، خصوصا وأن الخلافات بين “البرهان” و”حميدتي”، لم تعد خافية على أحد، لذلك قرر دمج قوات الدعم السريع في الجيش خلال عامين، تنتهي بانتهاء المرحلة الانتقالية وهو ما نص عليه الاتفاق الإطاري.
غير أن “حميدتي”، الذي لا يعرف إلى أين ستصل به طموحاته، رفض دمج قواته في الجيش إلا بعد عشر سنوات، وهي مدة طويلة من شأنها تضخيم قوة الدعم السريع بشكل يجعلها أقوى من الجيش ذاته، ومن الممكن أن تبتلع الدولة خلال هذه الفترة.
وعدم توصل الطرفان إلى حل وسط، دفع “حميدتي” إلى تحريك قواته إلى الولاية الشمالية، التي يوجد بها “سد مروي”، أكبر سد في البلاد، وبها مطار مدني هو الأكبر بعد مطار الخرطوم، بالإضافة إلى قاعدة عسكرية كان بها نحو خمس طائرات عسكرية مصرية من نوع ميغ-29.
“حميدتي”، لم يكتف بذلك، فرغم تحذيرات الجيش، إلا أن قواته سيطرت على مواقع حيوية داخل الخرطوم، وحاولت اعتقال قائد الجيش في منزله وهاجمت القصر الرئاسي،وسيطرت على مطار الخرطوم، ما اعتُبر محاولة انقلابية أو تمردا.
لكن عدم تمكن قوات الدعم السريع من اعتقال “البرهان”، والسيطرة سريعا على مؤسسات الحكم، جعل معسكراتها عرضة لقصف سلاح الجو، ناهيك عن استخدام الأسلحة الثقيلة مثل الدبابات ضدها.
فطموحات “حميدتي”، من شأنها أن تدفعه إما إلى سدة الحكم أو إلى غياهب السجون، أما إذ لم يتمكن أي طرف من حسم المعركة سريعا، فستدخل البلاد حربا أهلية طويلة، من شأنها ليس فقط إسقاط النظام، بل إسقاط الدولة وتقسيمها.
التعليقات مغلقة.