أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

نقاش من رحم أزمة التفتيش بأكاديمية درعة تافيلالت

محمد الدريسي 

منذ انطلاقة الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين بالجهة الجديدة درعة تافيلالت، عرف ملف التفتيش التربوي وضعا يمكن وصفه بالغموض والتذبذب، رغم المؤشرات الإيجابية التي ظهرت للوهلة الأولى والتي تفاعل معها أطر التفتيش بتعبئة جماعية وانخراط ميداني للمساهمة في رفع تحدي مرحلة التأسيس والتغلب على إكراهاتها المتعددة.
غير أن العلاقة بين هيئة التفتيش و إدارة الأكاديمية عرفت، بعد ذلك، مدا وجزرا نتيجة عدم وجود تصور واضح لدى الإدارة وترددها في الوفاء بالتزاماتها، وكذا ضعف تفعيل هياكل التفتيش وعدم استقرارها.
هي إذن علاقة مشوبة بكثير من التوجس والحذر، طالما تغذت بضعف منسوب الثقة بين المفتشين والإدارة؛ ولعلنا نعيش آخر تداعيات هذا الوضع بوصوله إلى حدية غير مسبوقة في تعامل الأكاديمية مع النضالات النقابية؛ فرغم أن السياق الذي نحن بصدده ـ المرتبط بمقاطعة مباريات التوظيف ـ سياق نقابي وطني، إلا أن التعامل معه كان استثنائيا ومتفردا بجهة درعة تافيلالت، مما يطرح العديد من علامات الاستفهام.
من رحم هذا التوتر الذي يثير الكثير من الاستغراب، أود أن أساهم في قراء نقدية للبلاغ التوضيحي الصادر عن الأكاديمية بتاريخ 05 يناير 2019؛ من خلال الأفكار الآتية:

1- حاول البلاغ إيجاد مرجعية قانونية أو تنظيمية لتصرف الإدارة في النازلة (إصدار قرارات الإنذار بالعودة لمقر العمل)، حيث جاء فيه أن ” المذكرات الوزارية المؤطرة لمهام وأدوار هيئة التفتيش والوثيقة الإطار لتنظيم التفتيش تشير إلى أهمية انخراط ومساهمة هيئة التفتيش في إعداد الامتحانات والمباريات وتتبعها وتقويمها، إلى جانب المساهمة في تنفيذ مخططات التربية والتعليم على الصعيد الجهوي”؛ حيث تفادى البلاغ ذكر النظام الأساسي لموظفي التربية الوطنية كمرجع أعلى من الوثائق التنظيمية، وهذا ربما مرده لعدم انسجام هذا المرجع مع مقصد استحضار هذه النصوص ابتداء، والمتمثل في إبراز مسوغات قانونية تعضد القرار المتخذ وتقنع الرأي العام.
المسألة الثانية، هي أن البلاغ عبر بصيغة ” تشير إلى أهمية انخراط ومساهمة هيئة التفتيش…”، مؤكدا بذلك محاولة جاهدة للبحث عن مدخل لتقعيد وجوب وإلزامية هذه المهام، غير أن اللغة لم تسعفه في ذلك: لأن ” الإشارة” لا تعني بكل حال من الأحوال ” التنصيص الصريح”، و”أهمية الانخراط والمساهمة ” لا تعني أبدا “الوجوب”.

2- والغريب في الأمر أن البلاغ بعد إخفاقه البين في إيجاد أرضية قانونية صلبة للمسطرة المتبعة، حاول اختزال عمل المفتشين ـ كل عملهم ـ في تلك المهام موضوع التكليف، لكي يخلص بمنطق غير مفهوم إلى توصيف الحالة أنها وضعية ” الانقطاع عن العمل”، وذلك بقوله:” بعد إعلان بعض المفتشين بالجهة عمدا الامتناع عن القيام بالمهام المنوطة بهم والمتعلقة بجميع الإجراءات الضرورية لإنجاح هذا الاستحقاق الوطني بالجهة، وبالتالي انقطاعهم عن عملهم”؛ مع العلم أن أغلب المفتشين المعنيين كانوا بصدد إنجاز مهامهم الأساسية في التأطير والمراقبة التربوية خلال نفس الفترة الزمنية.

3- إن استحضار البلاغ للوثائق التنظيمية المؤطرة لعمل التفتيش يبقى في حد ذاته مهما، بشرط عدم التعاطي معها بانتقائية وبنهج أداتي ظرفي يخدم هدفا محددا كما هو الشأن في هذه النازلة؛ ذلك أن تدقيق المهام والأدوار المنوطة بهيئة التفتيش وآليات نجاعتها، من المطالب الأساسية والملحة لتحقيق تعاقد مهني واضح يؤسس لربط المسؤولية بالمحاسبة.
وفي هذا الشأن لابد من الإشارة إلى أن الوثيقة الإطار ـ الواردة في البلاغ ـ تنص صراحة على ” الاستقلالية الوظيفية” التي يراد أن يغض عنها الطرف، وبالتالي فهذه الوثيقة تشكل مرجعا أساسيا لتجسيد هذا المفهوم في اتجاه توفير مناخ مؤسساتي وظروف موضوعية لمهام المراقبة والتفتيش والافتحاص، بالشكل الذي يحقق غاياتها ويحميها من أساليب البيروقراطية الإدارية.
كما أن “احترام القوانين والمقتضيات المنظمة للمهام والأدوار والوظائف الموكولة بكل هيئة بمنظومة التربية والتكوين، لتحقيق مقاصد ومضامين الرؤية الإستراتيجية للإصلاح” كما نص عليها البلاغ في خاتمته تسائل الأكاديمية ومصالحها عن العديد من الوضعيات التي يتم فيها الاستغناء على أطر التفتيش، رغم ارتباطها ارتباطا وثيقا بأدوارهم ومؤهلاتهم، وتسائلها كذلك عن الإرادة الحقيقية لتفعيل هياكل التفتيش وإشراكها في إعداد وتتبع مخططات التربية والتكوين بالجهة وتدبيرها إداريا وماليا.

4- وفي محاولة للهروب للأمام، عمد البلاغ إلى “تضخيم” النازلة عبر ربطها بورش وطني استراتيجي حين قال: “مما يستوجب انخراط هذه الهيئة في تنفيذ مقتضيات الجهوية المتقدمة في مجال التربية والتكوين”، وهو ما يبدو لي أقرب إلى تسويق وهم للرأي العام، مفاده أن الجهوية المتقدمة في مجال التربية والتكوين قائمة وأن ما يعيقها هو مثل هذه الأشكال النضالية والأعمال النقابية…؛ والواقع يشهد أن تدبير منظومة التربية التكوين لازال بعيدا كل البعد عن اللامركزية التي حاولت الدولة إرساءها منذ سنة 2002، ويبقى خير توصيف لوضع الأكاديميات ـ بعد مرور أزيد من 16 سنة من إحداثها ـ أنها مصالح خارجية لوزارة تتفضل عليها ببعض الاستقلالية الظاهرية من خلال عقد مجالس إدارية شكلية توفر غطاء قانونيا للتدبير المالي ليس أكثر.
إن الجهوية المتقدمة في مجال التربية والتكوين، إن كانت قائمة فعليا، لن تؤثر فيها مقاطعة مهمة أو مهام ظرفية مثل التي نحن بصددها، بل إنها ستتيح آليات تدبيرية متحرر من قيود المركز التي طالما ووجهت بها بعض مطالب المفتشين، وستوفر فضاء ملائما لحلول ناجعة للمشاكل وتدبير الإكراهات التي تواجه تفعيل هياكل واختصاصات التفتيش جهويا وإقليميا.

وفي الأخير يمكن القول أن “التحلي بالحس الوطني وتقدير روح المسؤولية وتغليب الضمير المهني والمصلحة العامة” ـ كما ختم البلاغ ـ مبادئ لا خلاف عليها، وهي مطلوبة من الجميع أطرا ومسؤولين، ليس على مستوى الخطاب والتعبئة فقط، وإنما على مستوى التدبير والممارسة كذلك، وهذا فقط ما سيعطيها قوتها ومصداقيتها.
حيث أزعم أنه لو كانت هذه المبادئ والقيم الكبرى حاضرة لدى المسؤولين في تدبير هذه النازلة، ما وصلت الأمور إلى ما هي عليه؛ فمجرد إشارة إيجابية لقبول الحوار كانت ستنقذ الموقف وتفتح مسارا آخر في علاقة الإدارة بالمفتشين، فالهيئة تتطلع فقط إلى إشارة صادقة تعبر عن إرادة حقيقية لإعطاء ملف التفتيش مكانته اللائقة به؛ وبالطبع ليس إشارة ظرفية كتلك التي أعطيت على مستوى أكاديمية درعة تافيلالت، لأنها لم تأسس لمسار بقدر ما فتحت قوسا سرعان ما أغلق للأسف.

*مفتش التوجيه التربوي بأكاديمية درعة تافيلالت

التعليقات مغلقة.