تعيش بلادنا على وقع الاجهاد المائي وشبح العطش الذي ضرب أهم موارده المائية وعلى رأسها نهر أم الربيع الخالد الذي ظل لسنوات يقطع الكيلومترات من قلب سلسلة جبال الأطلس المتوسط ويتجه غربا ليصب في المحيط الأطلسي عند مدينة آزمور، وهو بذلك يعد ثاني نهر في البلاد من حيث الطول وحجم المياه المُصَرَّفَة، ليسقي البشر والحجر والشجر، قبل أن يطاله شبح الجفاف حتى إن البعض من أسماكه نفقت وظلت تصارع الموت عطشا…
هو النهر الوفي الذي ظل لسنوات يسد خصاص المدن والقرى وينعش القطاع الفلاحي على ضفافه، راسما لوحات فنية خضراء بألوان زاهية، هو النهر الذي ظل لسنوات يقاوم ” سياسة الري الجائر” من قبل محركات ومضخات لم يهدأ لها بال، ولم تر طعم النوم ليلا ونهارا، مزودة بمحركات تستمد قوتها من قنينات الغاز ذات الحجم الكبير…
هو النهر المتدفق مياهً عذبةً، تُنعش الروح وتستهوي عشاق السباحة والاستجمام والاسترخاء على ضفافه وتحت أشجاره الباسقة ظلالها ظلا ظليلا…رغم تحوله أحيانا إلى مستنقع للموت غرقا وقذفا للجثث…
هو النهر الجاري المتسلل بين الجبال والسهوب والمنحدرات، ظل لعقود من الزمن ينشر تباشير الحياة المفعمة بالخيرات، حينها كان يتغذى من الثلوج المتساقطة والمياه المنهمرة، مشكلا بذلك أكبر ثروة مائية تغني عن السؤال….
مرت السنوات ومرت، وتوالت العجاف منها بشكل متواصل، وبدت معالم انخفاض منسوبه للعيان تنذر بخطر قادم لا محالة، وتوالت معها سياسة الاجهاد المائي دون حسيب ولا رقيب، بيد أن كرة الثلج هاته، انطلقت في التدحرج والتطور، في كل سنة تكبر وتتخذ شكلا أكبر، هكذا بدأت كرة ثلج المعاناة المرتبطة بالجفاف وشح التساقطات تتكون منذ عقود طويلة، ناهيك عن غفلة مسؤولي القطاع المائي والفلاحي، وبعض مهندسي السياسات العمومية بالبلاد بشكل عام، في ظل سياسات آنية بلا بعد تبصري استشرافي، حينها تراكمت وتفاقمت المشاكل، وأضحى معها الوضع لا يحتمل ولايطاق.
إن الوضع الذي يعيشه نهر أم الربيع والمناطق المجاورة له، يدمي القلب، نتيجة توالي سنوات الجفاف بسبب التغيرات المناخية، إلا أنه يبقى مجرد الحلقة الأخيرة التي أنهت مسلسل محاولات الفلاح الصغير للنهوض من الضربات المتعاقبة، الناتجة عن التدخل الجائر للإنسان في الطبيعة وهلعه في استغلال ثرواتها، إضافة إلى شجع البعض الآخر من ممارسي السياسات الاقتصادية الرأسمالية القائمة على حساب البيئة واستنزاف ثرواتها الطبيعية ليس على المستوى الوطني فقط؛ بل على المستوى العالمي كذلك، ناهيك عن توالي مواسم الجفاف.
جولة قصيرة بمحيط هذا النهر، تكفي لرسم صورة قاتمة عن خطر قادم، ينذر بموجة عطش غير مسبوقة..
نعم هو مشهد إذن، تعتصر له القلوب، حيث أسماك نافقة وأخرى تختنق جفافا، وهنا وهناك سواد يطبع ما بقي من بقع مائية….أراضي شبه قاحلة حولتها موجات الحرارة المتتالية إلى حصائد كأنها لم تغن بالأمس…
هو الأمس إذن بذكرياته الجميلة، يشكو حال اليوم الذي تسببت فيه عوامل عدة بشرية منها وغير ذلك، والصور القادمة اتباعا من منصات مواقع التواصل الاجتماعي تؤكد على حجم الكارثة…
فهل من سياسة حكيمة لإنقاذ النهر الوفي نهر أم الربيع؟
وإلى ذلك الحين، يبقى الأمل قائما على قدرة القدير الرحيم لعله يغيثنا غيثا نافعا، وينقد الحرث والنسل.
التعليقات مغلقة.