أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

نوستالجيا: الدونكيشوت

جمال بدومة

كان يمشي ببطء الى المدرسة، ويقفز بخفة نحو الستين. له شارب طويل، يفتله بعناية قبل ان يخرج من البيت، حتى يبدو شبيها بالدايات الأتراك، كما تصورهم كتب التاريخ، خصوصا أنه كان يحرص على وضع طربوش أحمر على رأسه، كأنه يأتي لحصة من “الطرب الأندلسي” وليس حصة من الإعراب والنحو والصرف والتحويل. مدرس اللغة العربية في الثالثة إعدادي، كان غريب الأطوار. كل شيء فيه غير جدي: شكله، دروسه، حكاياته، وعوده… حتى تهديداته لم تكن جدية. لذلك على الأرجح، سميناه الدونكيشوت. لا احد منا قرأ رواية سيرفانتيس، لكننا رأينا مغامرات الفارس السخيف رسوما متحركة، ولم نجد فرقا كبيرا بينهما.

بعد مرور كل هاته السنوات، أتساءل أي صدفة طائشة قذفت بالرجل الى مهنة التعليم؟ وأي جرم ارتكبناه لتنتقم منا وزارة التربية الوطنية على ذلك النحو ؟
في أول حصة دخلنا عنده، وجدنا السبورة مليئة بالأرقام والرموز. واضح ان التلاميذ كانوا يدرسون الرياضيات، واستاذهم زركشها بالطباشير الأبيض والأحمر والأزرق، كأنه بيكاسو. حملق الدونكيشوت في السبورة، كأنه يتأكد من بعض الأرقام، ثم استدار يفتش عن شيء، لكنه لم يعثر عليه. جال ببصره في الفصل، ثم أشار إليّ بسبابته، وأعطاني أمرا بالذهاب الى الادارة بحثا عن ممسحة ننظف بها السبورة:
– سر عند الحارس العام يعطيك شي ممسحة!

نزلت بخفة عند “الأصلع”، كما كنا نسمي الحارس العام وقتها، وقلت له، بسعادة غير مبررة، إن أستاذ العربية يريد ممسحة لتنظيف السبورة. مسح الرجل صلعته بكفه قبل أن يرد معاتبا: “خدّم عقلك شوية آولدي… منين غادي نجيب ليكم انا ممسحة!!! سير لهيه ورا الأقسام ودّي ليه شي شرويطة !” (وأشار الى الخلاء الشاسع الذي يفصل بين الأقسام وجدار الإعدادية) …

نكاية في الجميع، نفذت بالحرف ما أمرني به الحارس العام، ورجعت إلى القسم بخرقة قذرة، ما إن رآها الأستاذ حتى امتعض ورفع عصاه في وجهي محتجا، لكنني اخبرته بما قاله الحارس العام، وأضفت توابل من عندي:
– الحارس العام هو اللي قال ليا نجيب ليك هاد الشرويطة؟
وأضفت انه وصفه ب”المسطي”!

تصرف الدونكيشوت كأنه لم يسمع الشتيمة. حدق في قطعة القماش المتسخة لمدة من الوقت، ثم رماها في سطل القمامة قبل ان يقول لنا اننا لن نكتب اليوم شيئا على السبورة، لاننا لا نستطيع مسحها، مضيفا بلهجة واثقة أن الحارس العام لن يكمل الأسبوع في هذه الإعدادية، لأنه يعرف وزير التربية الوطنية شخصيا وسيتصل به “كي يؤدب” الادارة برمتها…
فرحنا كثيرا وانتظرنا ان يطير ” الأصلع” من منصبه ونرتاح، انتظرنا طويلا لكن شيئا من ذلك لم يحدث !

كان الدونكيشوت مدعيا كبيرا، يطلق الكذبة ويصدقها، مع جرعة محترمة من النرجسية، مما يجعل الدروس تتحول إلى قصص مسلية يلعب فيها دور البطل، دون أن يجد من يحاسبه في تلك الإعدادية المرمية في الخلاء.

بكثير من التباهي، يكرر على مسامعنا أنه التحق بالمدرسة في عمر متأخر، بعد أن تجاوز الخامسة عشرة… قبل أن يضيف أنه كان متفوقا في الدراسة بشكل استثنائي مما دفع معلميه إلى نقله مباشرة من “التحضيري” إلى الباكولوريا… كنا نقهقه ونحن نتخيله في الفصل مع أطفال صغار ونسأله ساخرين: “أستاذ هل كنت في التحضيري بالموسطاش أو بدون موسطاش؟”… لم تكن أسئلتنا المستفزة تضايقه، كان يتجاهلها ويكرر أنه كان يصاب بانهيار عصبي عندما يحصل على علامة أقل من 20 على 20، أما حين تنزل العلامة إلى 17 فإنه يفكر جديا في الانتحار !

إلى يومنا هذا، لا أعرف لماذا كان الدونكيشوت يصر على استعراض حياته الخارقة أمام أطفال يافعين؟ لا بد أنه كان يشعر بملل شديد في حجرة الدرس. على كل حال، كنا نفضل حكاياته المضحكة على دروس القواعد والنحو والصرف والتحويل، ونستغل مزاجه الرائق كي نحول الفصل إلى ملعب مفتوح على كل أنواع العبث. حين يكون مزاجه معكرا -وهي حالات نادرة لحسن الحظ- يصبح جديا أكثر من اللازم، وينكب على الدرس بصرامة، لا يتسامح مع أي حماقة، ولا يتردد في استعمال عصاه الخشنة لتأديب من يزعجه، مما يحول الحصة إلى جلسة تعذيب حقيقية.
عندما يكثر حوله الضجيج، ويفشل بالاستمرار في أكاذيبه ووضع حد لشغبنا الذي لا يطاق، يجلس على مكتبه ويشرع في شتم نفسه وأجداده وعائلته وجذوره وصحون مطبخه، معبرا عن ندمه الشديد على اليوم الذي فكر فيه أن يزاول مهنة التعليم، وأعتقد أنها اللحظة الوحيدة التي يكون فيها الدونكيشوت صادقا !

التعليقات مغلقة.