أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

وفاة حنا مينه نهاية رجل شجاع..أو البحار لا يموت أبدا..!

“ألو ، نعم…توفي حنا مينه ” ، قرأت للتو وصية منسوبة إليه…ويحضرني نفس العنوان “نهاية رجل شجاع” الرواية والفيلم، و”الشراع والعاصفة”؛ وفاة ” حنا مينه ” خسارة أخرى تضاف على بعد أيام إلى رحيل “سمير أمين”..؛ فتكاد منابع تشكيل الوعي أن تصاب بالجفاف لفائدة هذا التردي الذي يطفو مزهوا بالخواء.. !؛ كان هذا مضمون مكالمة تلقيتها هذا الصباح بعد انتشار نبأ وفاة حنا مينه ، الذي قال في سياق آخر أن “هناك أشياء لا تسر (..) لكن هذا سيزول وستعود الأمور طيبة مثل الأول”.
أجل انتشر خبر الوفاة مثل النار في الهشيم، ضد إرادته و”وصيته” التي جاء فيها: “عندما ألفظ النفس الأخير، آمل ، وأشدد على هذه الكلمة ، ألا يُذاع خبر موتي في أية وسيلةٍ إعلامية ، مقروءة أو مسموعة أو مرئية ، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطاً في مماتي، (..) لا حزنٌ، لا بكاءٌ، لا لباسٌ أسود ، لا للتعزيات، بأي شكلٍ، ومن أي نوع، (..) لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وهذه التأبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إلي، استغيث بكم جميعاً، أن تريحوا عظامي منها “..
لكن لم تستطع وسائل الإعلام تجاهل موت حنا مينه ، لأنه من واجبها اتجاهه . لأن ذلك لا يستقيم مع قوله : “أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين، فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحيوات الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيله (..) إن وعي الوجود عندي، ترافق مع تحويل التجربة إلى وعي،…”. واتجاه أجيال ساهم في تشكيل مزاجها، إثر ذلك.
كان “حنا مينه ” الطفل والشاب اليافع ينتمي لعائلة بسيطة فقيرة ، اضطر للتوقف عن الدراسة والنزول للعمل لكسب لقمة العيش منذ كان صبيا كعامل ميناء، بحار، كاتب عرائض ورسائل ، وكاتب على الأكياس، المراسل الصحفي .. الحلاق الذي يشتغل في دكان صغير، حتى استفزه زبون عاد للحلاقة عنده بعد مدة، حينما خاطبه بصيغة ما: ألازلت كما أنت… ؟
صارع من أجل الخبز والحياة ، مواصلا النضال من أجل الحرية والتي سجن ونفي في سبيلها عدة مرات ، وفي تكريس كتاباته لـ “نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض” كما يضيف ويتمم قوله (هنا) قائلا: “وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين من عمري ، شرّعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولما أزل” .
فأنتج إثر ذلك روايات ممتعة وعميقة ، قد نكون قرأنا منها: ” الثلج يأتي من النافذة “، ” حكاية بحار” ، “المصابيح الزرق” ، “الياطر” ،” الأبنوسة البيضاء” ، “المستنقع “، “الشمس في يوم غائم” ، ” بقايا صور”، “القطاف “،… و”الشراع والعاصفة” الرواية التي اعتبرها حنا مينه قد كرسته روائيا، وأنه يعود للتعلم من بطلها الطروسي الذي خلقه بالكلمات ؛.. و”نهاية رجل شجاع” ببطلها مفيد الوحش “بن القرية الريفي البسيط والقبضاي والذي شحذته الحياة البسيطة والقاسية وجعلت منه شخصاً قاسي الملامح حاد النظرة، تتطور شخصيته باتجاه تصاعدي ضمن المقاومة الوطنية للاستعمار الفرنسي وفي سجون الاحتلال لتجعل منه وطنياً يحلم بالحرية والحياة فتتعاظم قوة الوحش بداخله ويتعاظم معها إيمانه بالمقاومة كسبيل وحيد للتحرر، عندها يتحول الفتى إلى أسطورة ليتغنى الجميع بقوته وشجاعته” (من الملخص التقديمي لفيلم “نهاية رجل شجاع”).. وعناوين أخرى.
هكذا توفي حنا مينه ، عن سن 94 سنة، الروائي المتيم بحياة “جاء إليها عن طريق الخطأ” صارعها وأحبها، بنفس حبه للموت الذي ظل يدعوه للقدوم إليه بعدما اعتبر نفسه قد عمر طويلا (حتى صرت أخشى ألا أموت، بعد أن شبعت من الدنيا) !
لكن تجاوزا سنقول أنه مثل “البحار” ، الذي دخل البحرورحل في عمقه.. إلى أن يعود مع مركب قادمة أو موجة صاخبة.. وفي أفضل الأحوال يلفظه البحر.. فالبحار لم يمت.. أبدا !

رحال لحسيني
21 غشت 2018

التعليقات مغلقة.