مزاج ثوري

جمال بودومة

لأول مرة احس انني معني عن كثب باحتجاجات “السترات الصفراء”. لم اخرج للتظاهر، لكن القهوة التي اشرب كل سبت في براسري “Chez Pierre”، اختلطت بغاز “لاكريموجين”. المحتجون احتلوا ساحة “ريبيبليك” ورددوا شعاراتهم الأسبوعية، قبل ان يبدأ الكر والفر مع قوات الأمن، ويمتلئ الهواء بالدخان والروائح الخانقة وكثير من الشتائم. في الوقت الذي كان بعض المتظاهرين “يتشعبطون” في تمثال “ماريان”، حارسة الجمهورية، ويعلقون عليه رايات ولافتات، كان اخرون يكسرون طوبات ضخمة من حجر الرصيف كي يقصفوا أفراد الشرطة، أما نحن الذين كنا نتمتع بالدفء في “تيراس” المقهى، فقد وجدنا أنفسنا رهائن في معركة حامية الوطيس، تنقل أطوارها قناة BFM، بكثير من الحماس، كما تنقل Bein Sport مباريات “الشامبيانز ليگ”…

كثير من الفرنسيين لم يعودوا يخفون تذمرهم من “السترات الصفراء”، وتظاهراتهم التي تنتهي بتدمير عدد من الممتلكات، لكن الغاضبين عازمون على مواصلة المعركة “حتى النصر”، وحتى تحقيق كل “المطالب”. 
أي مطالب؟ واضح ان حزمة التدابير التي اقترحها إيمانويل ماكرون لم تنفع في تهدئة المحتجين. عندما تصاب المؤسسات الديمقراطية بالعطب، يأخذ الشارع الكلمة، وعندما يتكلم الشارع لا يمكن ان تسكته بسهولة، مهما قدمت من تنازلات. كلما أعطيته برتقالة يطلب اثنين، بل يطمع في الصندوق. الدول القمعية تحل المشكلة بسهولة، بدل البرتقال تعطيهم “العصير”: تشتت الاحتجاجات بالقوة، وتوزع المتظاهرين على السجون، وتخرس الشارع عن بكرة ابيه!

رغم بعض الاعتقالات الخفيفة، والإصابات العابرة، لم يصدر القضاء الفرنسي احكاما ثقيلة في حق المتظاهرين، لا احد منهم “ضربوه” بعشرين عاما بعد ان الصقوا له تهمة “المس بالسلامة الداخلية للدولة”، مثلا، لذلك يستعد “السترات الصفراء” لاحتجاجات السبت الثالث عشر على التوالي، بعد ان تحولوا الى جزء من المشهد الفرنسي، مثل برج ايفل وقوس النصر وساكريكور وموسم التخفيضات، أصبحوا مسلسلا “مشوقا” ينتظره ملايين المشاهدين كل أسبوع، كي يتفرجوا على مدينة الأنوار وهي تحترق وعلى افخم المحلات التجارية وهي تتعرض للنهب واجمل جادة في العالم وهي تتحول الى ساحة حرب، بغير قليل من التشفي احيانا.

ولعل الملاحظة الاساسية في هذه الاحتجاجات، التي زعزعت عرش ماكرون، ان أصحابها ينتمون الى أسفل الطبقة المتوسطة. “السترات الصفراء” هم أولئك الفرنسيون الأقحاح (Les Français de souche) ،الذين لا يتمكنون من إكمال الشهر، رغم انهم يشتغلون مثل بغال طوال الأسبوع. في فرنسا أيضا، الشهر طويل كالصراط المستقيم، ومن الصعب على كثير من المواطنين اتمامه دون قروض من البنك والعائلة والأصدقاء. بخلاف فئة كبيرة من المهاجرين ومن سكان الضواحي والطبقات المعدمة، هؤلاء المحتجون لا يريدون إعانات من الدولة، بل يودون العيش من عرق جبينهم في احترام تام لكرامتهم…

اذا كانت الطبقات المسحوقة تعيش على مساعدات الدولة، والطبقات الميسورة تستفيد من ثروتها المعفاة من الضريبة، فإن الطبقة المتوسطة تعيش على أعصابها، بعد ان اثقلت الحكومة كاهلها بالضرائب. لا الرواتب تكفي للوصول بكرامة الى اخر الشهر، ولا هي معدمة تماما كي تحصل على مساعدات اجتماعية، لذلك خرجت الحشود الى الشارع!

فرنسا بلد عصي على الإصلاح، لأن مزاج الفرنسيين ثوري. يكرهون الاثرياء، حتى عندما يكونون مواطنين صالحين يدفعون الضرائب ويساهمون في اقتصاد البلاد. اخصب السنوات الفكرية في حياة كارل ماركس قضاها في بلد الأنوار، حيث صقل نظريته الثورية بفضل “كومونة باريس”، التي كانت بمثابة “مسودة” لثورة البلشفيين في روسيا. “موطور” الجمهورية شيوعي، آلة ضخمة لا تتوقف عن إعادة توزيع الثروة، تأخذ من الغني لتعطي الى الفقير، ولا احد ينتظر شيئا من السماء، لذلك اخطأ ماكرون حين لبس تاج الملك واعتقد ان بامكانه إصلاح الماكينة وتشحيمها عن طريق فرم الطبقة المتوسطة. “السترات الصفراء” خرجوا الى الشارع كي يقدموا للعالم تذكيرا تاريخيا بأن بلدهم هو مهد الثورة التي شنقت آخر ملك بأمعاء آخر رجل دين!

التعليقات مغلقة.