“مادّير خير ما يطرا باس”!

جمال بودومة

الحريق الذي شب في احد اروقة معرض الكتاب والنشر في الدار البيضاء، الأسبوع الماضي، يكشف ان بيننا “مجوسيون” حقيقيون، لا يخفون فرحتهم باندلاع النيران. المشهد يستدعي التأمل: اللهب كان يأكل المنشورات، وبدل ان يصنع شيئا من اجل إيقاف الكارثة، كان “كحل الراس” يلتقط الصور ب”البورتابل” في انتظار ان يأتي الحريق على الرواق، وربما المعرض باكمله، المهم أن يخلّد اللحظة الملتهبة بهاتفه الذكي. التلفون ذكي والموقف في منتهى الغباء. الحمد لله ان رجال المطافئ كانوا في الموعد، وإلا كنا نظمنا معرضا آخر لصور المعرض وقد تحول الى رماد…


المغربي “برگاگ” بطبعه. منذ ان أصبحت التكنولوجيا توفر للإنسان آلة تصوير سهلة الاستعمال، بات شغل الكثيرين هو التقاط صور لللحياة بدل عيشها، والتفرج على العالم بدل المشاركة في أحداثه، وتحويل كل شيء الى فرجة.

البعض يذهب بعيدا، وينشر صور أشخاص مريضين او في حالة قصوى من الوهن على وسائل التواصل الاجتماعي، طالبا من سكان الكوكب الافتراضي أن “يدعيو معه”، وهو في الحقيقة يستحق ان “يدعيو عليه” او يدعيوه” امام المحاكم، بكل بساطة، لانه يقوم بانتهاك صارخ لكرامة شخص في حالة ضعف. للإنسان حرمة، والأعراف تقضي أن نصون كرامة المريض، لا أن نجعل من شخص في المستشفى او على سرير الموت فرجة… كيف تتجرأ على التشهير بوالديك في فيسبوك وانستغرام يا “مسخوط الوالدين”!

هؤلاء الذين لا تهمهم الا الصور، كيفما كان الحدث او الموقف، ويسيئون احيانا الى اقربائهم، يضيّعون اللب ويمسكون بالقشور. ولو فحصنا مساراتهم سنجد ان معظمهم يعاني من مشاكل نفسية واجتماعية عويصة. يخبئون فشلهم في الحياة وراء نجاحات وهمية على وسائل التواصل الاجتماعي. 
يخفون تعاستهم باختراع سعادة افتراضية مزيفة. كلما كانت “الديبريسيون” عميقة، كلما كانت الابتسامة عريضة على فيسبوك وانستغرام. هؤلاء هم من كانوا يصورون الحريق بدل إطفائه في معرض الكتاب.

ومثلما هم موهوبون في “التشهير”، المغاربة عموما اساتذة في “الكريتيك”. لا شيء يعجبهم، لذلك على الأرجح اشتهرت عندنا قصيدة محمود درويش “لا شيء يعجبني” اكثر من أي نص آخر. لا شيء يعجب في بلد الثلاثين مليون “ناقد”…

حتى الميليارديرة التي تبرعت بمليار ومائتي مليون لتشييد وترميم مؤسسات تعليمية في سطات لم تسلم من ألسنتنا الطويلة. البعض استنكر ان تقوم نجية نظير ببناء مدارس بدل ان تبني دورا للعبادة، رغم ان منهم من لم يسبق له ان حط جبهته العريضة على الأرض. والبعض تساءل عن جدوى البناية اذا كانت المناهج التربوية مفلسة، كأن تدني محتوى التعليم يبرر حشد الأطفال في أقسام آيلة للسقوط، وآخرون تركوا جميع أغنياء البلد الذين يراكمون الثروة دون ان يفكروا لحظة في مساعدة الآخرين، ووجدوا ان انسب سؤال يطرح على “فاعلة الخير”، هنا والآن، هو: من اين لكِ هذا؟

“الكريتيك مزيان يا وجه الطارو”، لكن يجب ان يوجه للشخص المناسب في الوقت المناسب. بدل التشكيك في مبادرة سيدة الاعمال المحترمة، يجدر بك ان تسأل اين أولئك الذين يسيطرون على ثروات البلاد وخيراتها؟ لماذا لا يصرفون درهما واحدا في المشاريع الخيرية؟ دمتم أوفياء لشعار المملكة الخالد: “مادّير خير ما يطرا باس”!

التعليقات مغلقة.