جامع حسان برباط الفـتح .. “تحفة” المعمار الموحدي( 3/3)

عزيز لعويـــــسـي

– رابعا : وصف المعلمة .

بعد أن تم رصد جوانب من الغموض والإبهام الذي يكتنف جامع حسان ، لا فيما يتعلق بالإسم الذي لم يرد في المصادر التاريخية الموحدية، أو الموقع الاستراتيجي المتميز ضمن المجال الحضري لرباط الفتح ،  أو فيما يتعلق بتاريخ التأسيس ،فإن هذه المعلمة الدينية لم تتبق منها اليوم سوى الأطلال وبدن صومعة بديعة (صومعة حسان)  تعكس عظمة جامع كان يعد من أكبر جوامع الغرب الإسلامي على الإطلاق، وثاني أكبر الجوامع الإسلامية قاطبة بعد جامع سامراء بالعراق ، بمساحة تناهز 25.500 مثر( 139,32X183,12 )(13) خصص فيها لقاعة الصلاة ما مساحته 19,321 متر( 139×139)(14)، وهي مساحة شاسعة جدا أشار إليها المراكشي بقوله ” وبنى (أي المنصور) فيها (أي رباط الفتح) مسجدا عظيما كبير المساحة و اسع الفناء جدا، لا أعلم في مساجد المغرب أكبر منه “(15) ، وقد بلغ عدد أبواب الجامع كما ذكر “عبدالله السوسي” ستة عشرة بابا كانت في غاية الضخامة بعلو يتجاوز عشرة أمتار(16) ، و اشتمل البناء كما وصفه العلامة “الدكالي” على “مائتي ساريــة من عمد الرخام ، محيط العمود منها أربعة عشرة أشبرا ، و طوله أزيــد من عشرين شبرا “(17) ، و هذا الصرح المعماري الكبير  تطلب تشغيل عدد كبير من العمال كان بعضهم من الأسرى ، وقد أشار إلى ذلك “أحمد بن خالد الناصري ” بقوله ” وقد كان يعمل في بنائــه ونقل حجارته حوالي سبعمائة أسير من النصـــارى الإفرنج كانوا مكبلين بالسلاسل”(18) ، و لم يكتب لهذه المعلمة أن يكتمل بناؤها ولا أن تؤدي وظائفها كما ابتغاها لها بانيها الخليفة”أبويوسف يعقوب”، ذلك أن مشروع البناء لم يتم ، كما ذكر” المراكشي” في سياق وصفه للجامع بقوله :

” وبنى فيها مسجدا عظيما كبير المساحة واسع الفناء جدا ، لا أعلم في مساجد المغرب أكبر منه ـ وعمل له مئذنة في نهاية العلو على هيئة منار الإسكندرية ، يصعد فيها بغير درج ، تصعد الدواب بالطين و الآجر والجص، وجميع ما يحتاج إليه إلى أعلاها، ولم يتم هذا المسجد إلى اليـــوم ، لأن العمل توقف عنه بموت أبي يوسف، ولم يعمل فيه محمد ولا يوسف شيئا ” (19)، و هذه الشهادة تكتسي أهمية بالغة ليس فقط لأن صاحبها كان معاصرا للأحداث، بل أيضــا لأن زياراته المتكررة لمدينة رباط الفتح قد مكنته من معاينة ورش البناء بأم عينـه ، ولمس عن كثب توقــف الأشغال ، و بعد نحو مائة سنة ،أي في عام 726ه/1326م يذكر صاحب روض القرطاس أنه ” وفي سنــة ثلاثة و تسعين وخمسمائة بني رباط الفتح وتم ســوره وركبت أبوابه ،وفيها بني جامع حسان ومناره”(20).

كتاب أخرين كابن الخطيب وبن بطوطة(عاشا في القرن 14م) و الناصري(عاش في القرن 19م) لم يحملوا أي عنصر جديد فيما يتعلق بعدم إتمام الجامع، كما أنهم كتبوا في مرحلة متأخرة ، بينما المراكشي فهو معاصر للوقائع التي أوردها ، بل أكثر من ذلك ورغم استقراره بمراكش، فقد استقر برباط الفتح خلال فترات متقطعة (21) لذلك فقد عاين بأم عينه توقف أشغال البناء، مما يضفي على شهادته قيمة خاصة مقارنة مع الروايات اللاحقة خاصة تلك التي حملها ابن أبي زرع ، وفي سياق متصل،فقد حاول الباحث الفرنسي”ديولافوا” – بناء على الحفريات التي أجراها بالموقع سنة 1914م وانطلاقا من بعض المصادر التاريخية – حاول إثبات اكتمال الجامع، إلا أن نظريته ووجهت بانتقادات عدد من الباحثين في مقدمتهم “جاك كايي” في كتابه “جامع حسان بالرباط”(22)، مقابل ذلك، فقد أورد العلامة الدكالي في كتابه “الإتحاف الوجيز” معطيات تؤكد على إتمام الجامع وتركيب سقوفه(23)، إلا أن روايته تبقى قليلة الأهمية من منطلق أنه كتب في مرحلة جد متأخرة، ولم يكن له أي اتصال مباشر بالوقائع التي سردها، ولاشك أن العثور على بقايا سقفية وصفائح من الرصاص وأقواس صغيرة من الآجر وقطع من الزليج والقرميد تحت الردم، يدل على أن المسجد سقف فعلا(24) ، لكن من المؤكد أن أشغال البناء توقفت كما أشار إلى ذلك المراكشي، وأن أشغال البناء وصلت إلى مراحل متقدمة دون أن يتخذ الجامع شكله النهائي، وإلا كيف يمكن تفسير تعرضه للخراب والإهمال.

 وهكذا، فقد لقي الجامع مصير البنايات غير المكتملة، وتعرض في مساره التاريخي إلى جملة من الأحداث أحالته أطلالا، وقد خصص الفقيه الدكالي في ” تقييد في بناء جامع حسان من رباط الفتح”(25) مبحثا خاصا بخراب الجامـــع ، واستعرض فيه جملة من الأسباب التي ساهمت في خرابه منها اشتماله على خشب الأرز المتيــــــــــن والعمد الرخامية، مما جعل الأيدي تمتد إليه بالسرقة والاختلاس، و الحريق الهائل المشاهد مصحوبا مع سقوط الأعمدة وكذا زلزال 1169م الذي أصاب مدنا مغربية كمكناس والرباط وسلا ، ومن الطبيعي أن يكون جامع حسان و صومعته قد تضررا بفعل هذه الكارثـــة ، وفي القرن الثامن عشر، وفي عهد السلطان مولاي عبدالله (1729-1757) يشير “الضعيف الرباطي” إلى سفينة تعرف ب”الكراكجية” صنعت من خشب حسان، نصفها لأهل الرباط ونصفها لأهل سلا(26)، ومما لا شك فيه، أن هذه المعلمة المهجورة شكلت مصدرا مهما لتزويد أوراش البناء برباط الفتـــح عبر العصور، وحول هذه النقطة ، يؤكد “جاك كايي” أن حجارة موحدية استعملت في بناء مسجد” مولينا” بالرباط ، والذي أقيــــــم في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ويعتقد أن هذه الحجارة تعود إلى جامع حسان، كما يعتقد أن المواد التي استعملت في بناء السور الأندلسي بالرباط، تعـــــــود هي الأخرى إلى نفس الأصل.

عموما وفي بداية القرن العشرين كان الجامع خرابا بامتياز، إذ كانت تكتسحه الأشجار والأعشاب الشائكة، وكانت أغلب الأعمدة ترقد على الأرض أو مدفونة تحت الأنقاض، وفي ظل هذه الوضعية المزرية، فقد أقام الأجانب المقيمين بالرباط بتهيئــة ملعب لكرة المضرب في الجزء الأقل اكتساحا بالأشواك ، والجامع اليوم لم تتبق منه سوى الأطلال : أرضية مبلطة كانت ستشكل بيت صلاة لو كتب للمشروع أن يكتمل تتخللها أعمدة أسطوانية مكونة من حلقات دائرية متراكبة فوق بعضها البعض حملت أو كانت ستحمل عقود وسقوف المسجد ، وبقايا سور وبدن صومعة عظيمة لم تتخذ قط تتويجها النهائي كما الحال بالنسبة لشقيقتيها “الكتبية” و”الخيرالدا”.. صومعة -رغم تأثيرات الزمن- لازالت مصرة على البقاء، وحدها تحمل خفايا وخبايا أكبر جوامع الغرب الإسلامي قاطبة وثاني جوامع العالم الإسلامي بعد جامع سامراء بالعراق ، ويكفي تأمل شموخ الصومعة وسمو زخارفها ، لاستحضار “عظمة” جامع لم تبق من عظمته سوى الأطلال ، لكن ورغم تأثيرات الزمن وتطور العمران لا زالت “حسان”تحفة المعمار الديني الموحدي بامتياز …   

مراجع معتمدة :

  • عثمان عثمان إسماعيل ، تاريخ العمارة الإسلامية والفنـــون التطبيقية بالمغرب الأقصى، الجزء 3 ، ص 52.
  • عبدالعزيز بن عبدالله ، مظاهر الحضارة المغربية ، 1958 ، ج2 ، ص 50.
  • محمد المنوني ، حضارة الموحدين، دار توبقال للنشر، الدارالبيضاء، 1989، ص 12.
  • ابن أبي زرع، الأنيس المطرب بروض القرطاس في تاريخ ملوك المغرب ومدينة فاس، نشر دار المنصور، الرباط، 1973، ص 269.
  • سحر السيد عبدالعزيز سالم ، مدينة الرباط في التاريخ الإسلامي، مؤسسة شباب الجامعة،الاسكندرية ،1996، ص 140.
  • عبدالعزيز التـــوري، حسان(جامع)، معلمة المغرب، الجزء العاشر، ص 3410.
  • محمد المنوني ، حضارة الموحدين، مرجع سابق، ص 12.
  • ابن أبي زرع ، مرجع سابق ، ص 229.
  • عثمان عثمان إسماعيل ، مرجع سابق ، ص 165.
  • ابن أبي زرع ، مرجع سابق ، ص 269.
  • عبدالواحد المراكشي ، المعجب في تلخيص اخبار المغرب ، الدارالبيضاء 1978، ص 384.
  • CAILLE(J) , La  Mosqueé de Hassan a Rabat, (F .I.H.M) , Tome L VII , Paris 1954, p 15
  • عبدالعزيز التـوري،
  • عبدالله السويسي ، تاريخ رباط الفتح، الرباط، 1979، ص 126.
  • المعجب، مرجع سابق ، ص 384.
  • تاريخ رباط الفتح ، مرجع سابق ، ص 126.
  • محمد بن علي الدكالي ، الإتحاف الوجيز في تاريخ العدوتين ، منشورات الخزانة العلمية الصبيحية ، سلا 1986، تحقيق مصطفى بوشعراء، ص 76.
  • الاستقصاء، أحمد بن خالد الناصري، دار الكتاب، الدارالبيضاء، 1954، ج2، ص 195.
  • المعجب عبدالواحد المراكشي، مرجع سابق ،ص 384.
  • روض القرطاس ، ص 269، مرجع سابق .
  • La  Mosqueé de Hassan a Rabat,p17
  • La  Mosqueé de Hassan a Rabat,p17
  • الإتحاف الوجيز ، مرجع سابق ، ص 76 .
  • تاريخ رباط الفتح ،| عبدالله السويسي، ص 130 .
  • (25)            “تقييد في بناءجامع حسان برباط الفتح” ، محمد بن علي الدكالي، التاريخ العربي ، ع 9، السنة 1999، تقديم وتحقيق نجاة المريني، ص119 وما بعدها.
  • محمد بن عبدالسلام الضعيف ،تاريخ الدولة السعيدة، دار المأثورات، الرباط 1986، تحقيق أحمد العماري، ص 157.


التعليقات مغلقة.