تازة: في رحاب زمن جبل تازكا الاستراتيجي

عبد السلام انويكًة  

هي نتاج عناصر عدة ومتداخلة فضلا عن مهمة دفاع تاريخية تلقائية تحضر فيما يلتقط من إشارة مشهد جامع بين طبع موضع وطبيعة ممر، تلك هي تازة التي لا شك أنها وعاء كل كان بأثر في نشأة مدينة، ومن ثمة حياة وتراث انسان؛ واذا كان هاجس مأمن وماء هو ما طبع وعي مؤسسين أوليين، فإن اصل نواة المدينة لا شك أيضا هبة جبل؛ وعليه، ما سُجل من انتصار لهذا الأخير من قِبل من حكم المغرب من كيانات سياسية منذ العصر الوسيط، وعيا بما لسلطة أعالي في حضن أسافل، هكذا يبدو جبل تازة من بواعث نواة لِما كان عليه من قاعدة خلفية وهيبة وأثر في التأسيس، لدرجة حديث عن مؤسسة الجبل في زمن ممر ومستقر.

 

ولعل بقدر ما كان الجبل في زمن المدينة بدور مؤثر في نسيج تأسيسها، وفيما ارتبط بالمكان من أحداث وتجليات تفاعلات، بقدر ما كان رافعا لفعل سياسة وسياسيين منذ القدم وعاملا موجها ضمن جدل تحد واستجابة ومن ثمة وجود وانسان وحضارة وجدل بفهم ونظر “توينبي” صوب فعل الزمن وحركته.

وإذا كانت تازة واحدة من قلاع البلاد الشهيرة المنيعة بما أحيطت به من أسوار شاهدة وأبواب وأبراج مراقبة وغيرها، فلا شك أن الجبل بها كان سر نواتها وحصنها وحصانتها بل أن سورها الأول الطبيعي المنيع جعلها دوما بأمن وأمان وهيبة ممر.   

 

 على وقع جبلها بصيغة جمع إذن، كانت تازة بعناية خاصة ووقائع وتطورات ذات صلة بهذا الجبل منذ العصر الوسيط، ولعل بقدر موضع مطل لها على ممر شهير، بقدر ما تتقاسم جنوبها سلسلة قمم قرب، لعل منها جبل “تومزيت” بعلو حوالي ألف متر الذي أثار ما أثار من نظر مستكشفين فضلا عن قوات فرنسية لاحقا منذ السنوات الأولى للحماية خلال القرن الماضي، عندما أنشأت به برجا مدفعيا أماميا لا زالت أطلاله شاهدة لحد الآن، وقد استهدفت به رصد وضبط حركة قبيلة غياتة الجبل في الجوار وإحكام قبضتها عليها، ومعها تازة أيضا التي أنيطت بها مهمة عسكرية أمنية محضة منذ احتلالها خلال ربيع سنة ألف وتسعمائة وأربعة عشر. عندما أحدثت بها سلسلة ثكنات عسكرية شكلت قاعدة إعداد عملياتها وتدخلاتها إن على مستوى المنطقة أو بجهات أخرى من البلاد كلما تطلب الأمر ذلك، فضلا عن تحكمها ومراقبتها لأعالي مقابلة حيث مقدمة جبال الريف ووادي إيناون وروافده تأمينا منها لإنسيابية حركة، وضمانا للعلاقة بين مستعمرات شمال افريقي تابع.

إشارات وغيرها ارتأينا أنها ذات أهمية لتسليط بعض الضوء حول قمة جبل ذا استراتيجية خاصة منذ عشرينات القرن الماضي، زمن الحماية، ويتعلق الأمر بقمة جبل “تازكا” الذي بقدر ما يطل على تازة من جهة الجنوب، بقدر ما يحكم كل ممرها الذي يصل شرق البلاد بغربها.

وقمة جبل “تازكا” التي تظهر شامخة من جهة الغرب في الطريق إلى المدينة عبر وادي أمليل، هي جزء من بروز لقاعدة صخرية قديمة تجمع بين طبقات كلسية وجوراسية ولياسية، بعلو حوالي ألفي متر، وبامتداد مجالي معبر وتقطعات ومجاري مائية مجاورة فضلا عن غطاء نباتي هام من غابة شجرة الأرز.

مع أهمية الإشارة هنا لوضعه شبه المغلق، والذي يجعله بصعوبة ولوج، اللهم عبر مسلكين الأول من جهة الشرق حيث تازة، وضاية “شيكر” و”باب بويدير”، والثاني عبر ما يعرف محليا ب”باب أزهار” من جهة الغرب، علما ان مجال امتداد المسلكين معا يشكل مدارا سياحيا شهيرا في المنطقة، بمنتزه “تازكا” الوطني الذي تعود فكرة إحداثه لثلاثينات القرن الماضي.

 

قمة جبل “تازكا” هذه التي بذاكرة تاريخية خاصة ومهمة مثيرة ارتبطت بزمن الحماية، ذلك أن علوها من جهة، وتحكمها في المجال المجاور كاملا بما في ذلك كل مقدمة جبال الريف المطلة على ممر تازة الاستراتيجي، جعلها بدور ومهمة في اتصال وتوجيه ومراقبة وتتبع، إن مثلا خلال وقائع حرب الريف خلال عشرينات القرن الماضي عندما امتدت عملياتها صوب ممر تازة، أو في علاقته بتطورات الانزال العسكري الأمريكي بسواحل المغرب مطلع أربعينات القرن الماضي، وتنقل قواته عبر ممر تازة صوب الشرق حيث الجزائر وتونس.

فضلا عما كان لقمة جبل “تازكا” هذه كمحطة اتصال من علاقة بتطورات انطلاق عمليات جيش التحرير شمال تازة مطلع خمسينات القرن الماضي الى غاية استقلال البلاد، على مستوى شمال تازة حيث “أكنول” و”تزي وسلي” و”أجدير” و”بورد”، المجال الذي عرف بمثلث الموت، وقد أثار ما أثار من جدل آنذاك بين صحافة ولقاءات رسمية ورد فعل.

واذا كانت قمة جبل تازكا قد اشتهرت بمنصاتها وأعمدتها الخاصة وبدورها في الاتصال اللاسلكي، فبها أيضا كانت محطة أمريكية للرادار ربما منذ حرب الريف عندما هددت ممر تازة، وعلاقة شرق البلاد بغربها، قبل ما حصل من تنسيق فرنسي اسباني ثم أمريكي ربما عبر خدمة جهاز رادار قمة جبل تازكا، وقبل استسلام رسمي لزعيم حرب الريف بثكنة “جيراردو” بتازة في طريقه لمنفاه.

ولا شك أن محطة رادار الأمريكان هذه كانت تخضع من حين لآخر لتتبع وعمل صيانة من خلال دوريات منتظمة لتقنيين أميركيين، ذلك أنه خلال خمسينات القرن الماضي، عشية استقلال المغرب، حيث انطلاق عمليات جيش التحرير شمال تازة، انقلبت شاحنة تابعة للجيش الأمريكي كانت متجهة لمحطة “تازكا” وسقطت في هوة بحوالي مائة متر غير بعيد عما يعرف محليا ب”رأس الماء”، بسبب صعوبة طريق بمنعرجات خطيرة حيث مات من مات ونجا من نجا من ثمانية أفراد كانوا على مثنها.

وعليه بقدر ما يطرح سؤال بداية وسر وأهمية محطة الرادار الأمريكي بقمة جبل “تازكا” في علاقتها بما شهدته المنطقة من أحداث خلال فترة الحماية بكيفية خاصة، بقدر ما يطرح السؤال أيضا حول علاقة رادار “تازكا” الأمريكي هذا، وهذه الحادثة المؤلمة، وهذه الخلية الأمريكية التقنية التي كانت بمهمة تتبع خلال هذه الفترة الدقيقة من زمن المغرب الوطني، حيث المقاومة على أشدها بعد انطلاق عمليات جيش التحرير غير بعيد عن ممرها تازة؛ علما أن سلاج الجو والطيران قام بدور معبر في ارجاع الهدوء لمواقع مشتعلة ضمن كفاح مسلح على مستوى ما عرف بمثلث الموت، شمال تازة، بل أن سلاح الطيران هذا هو الذي خلف ما خلف من ضحايا في صفوق جيش التحرير بالمنطقة، وفق ما ذكرته رواية ونصوص مذكرات مقاومين وأرشيف صحافة.

فهل قامت محطة رادار الأمريكان بقمة جبل “تازكا” بدور تنسيقي توجيهي في عمليات فرنسا العسكرية بالمنطقة، وهل قام هذا الجهاز بدور فيما نظمته قواته من هجمات وعمليات ضد قيادات جيش التحرير الميدانية بمجال مثلث الموت؟، ولماذا اختارت المقاومة وجيش التحرير الجبال بهذه الربوع لتنظيم هجوماتها على الأهداف الاستعمارية، هنا وهناك بالمنطقة؟، ولماذا بادرت القوات الفرنسية بتوجيه امدادات ونجدات لضرب المجاهدين وقياداتهم بالجبال ومعهم مكامن ذخائر أسلحتهم؟، متحدثة عما كان من دور هام لطائرات استطلاعية واتصال وتوجيه، في كشف آليات نقل الأسلحة لهؤلاء عبر شاحنات تموين، تم قصفها وتحطيمها عبر الجو في وقت كان فيه حديث عن قرب مفاوضات وتشكيل مجلس حفظة عرش، وتأليف حكومة مغربية تمثيلية.

فهل قام رادار الأمريكان بقمة جبل “تازكا” بدور فيما حصل على مستوى حرب الريف قبل حوالي المائة سنة؟، وهل هذا الجهاز الذي تم نصبه بقمة الجبل المتحكم في ممر تازة وامتداداته غربا وشرقا وشمالا، كان بأثر فيما شهدته المنطقة من تطورات بعد انطلاق عمليات جيش التحرير بشمال تازة، حيث تماسات منطقة “خليفية” وأخرى “سلطانية”؟، وهل قام الأمريكان من خلال جهازهم هذا في قمة جبل “تازكا” بدور موجه واتصال داعم مؤطر لتنفيذ ما تم تنفيذه خلال هذه الفترة الدقيقة؟، وأي تنسيق ربما كان قائما بين الأمريكان والقوات الفرنسية لتدبير ما تم تدبيره؟، علما أن حادثة شاحنة الأمريكان التي كانت في طريقها لمحطة تازكا، حصلت خلال نفس الشهر الذي انطلقت فيه شرارة عمليات جيش التحرير، شمال البلاد. أسئلة وغيرها بقدر ما هي ذات علاقة بمنعطفات فاصلة في تاريخ مغرب الحماية، بقدر ما هي مساحة نأمل من ذاكرة مدينة وقمة جبل الى حين.  

 

مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث

التعليقات مغلقة.